قولوا عنها ما شئتم، وعرفوها كيفما شئتم، فقطعا لن تعدلوا في القول عنها وحتما لن تعرفوها كما تعرف نفسها منذ مئات السنين، منذ أن ولدت لعبة من رحم الإبداع الإنساني لتعذب الإنسان أولا، تلك هي كرة القدم التي تعدل وهي ظالمة وتظلم وهي عادلة، تمارس جنونها على العقلاء وترمي بشرارات الهوس على الملايين من الذين صدقوا آلاف المرات بأنهم عرفوا كنهها وما عرفوا شيئا.
وقفت مشدوها إزاء هذا الذي حدث مساء الأربعاء الماضي بالنيو كامب ببرشلونة، في لقاء أمراء البلاوغرانا وأمراء باريس عن إياب دور ثمن نهائي عصبة أبطال أوروبا، ولم أكن الوحيد الذي أدهشه لحد إصابته بالخبل ما كان في تلك الموقعة الكروية الناذرة، بل كان معي الملايين ممن شاهدوا المباراة أو حتى سمعوا بنتيجتها.
من يقول أن الملهاة أو الملحمة أو الأسطورة التي حدثت ببرشلونة هي الأولى في تاريخ جنون الكرة فهو خاطئ، لأن هذا الذي حدث هو أصل كرة القدم هو بطاقة تعريفها، هو الجمال الذي يصيب بالخبل وهو السحر الذي يبهر العين وهو العبث الذي يرفضه العقل ولكننا نشقى بالبحث عنه دائما في كرة القدم، ما حدث ببرشلونة إعلان جديد عن أن لكرة القدم منطقا يسحق العلم ويدوس على من يظن أنه يملك حاسة التوقع الشديد ويطبق فينا قانونا لا نستطيع إلا أن نذعن لأوامره.
قبل ثلاثة أسابيع برقت سماء باريس بالكثير من النيازك وتدفق عطر جميل من حديقة الأمراء ونادي باريس سان جيرمان يهين برشلونة برباعية نظيفة في ذهاب الدور ثمن النهائي لعصبة السحر والمتعة، وما قرأته مكتوبا وما سمعته مرويا كان فيه الكثير من التجني على كرة القدم، فالباريسيون ومعهم الفرنسيون والناقمون على البارصا رفعوا أمراء الحديقة لدرجة الملوك وقالوا بأن الكأس التي تمنعت لسنوات ستأتي أخيرا طيعة بين أيديهم، ولدرجة القسوة جلدوا برشلونة، باعوا جلدها بأبخس الأثمان وقالوا أن أمراء الحديقة دفنوا التيكي تاكا.
ولم يكن الباريسيون أو الناقمون وحدهم من حكموا الحكم الجازم باندحار برشلونة، فحتى المتيمون بحب البارصا أحبطهم ما شاهدوه ومنهم من قال أن القول بوجود أمل في لقاء العودة لتخطي رباعية "الذل" هو عين الهذيان.
والحقيقة أن الإقتراب من معجزة النيو كامب كانت في تقديم إجابة عن هذا السؤال:
هل كان الفوز بالرباعية البيضاء بحديقة الأمراء من صنع هلامية بلغها باريس سان جيرمان في أدائه الجماعي؟ أم أنها كانت بسبب عطل طارئ وقع في منظومة البارصا؟
وقد كان الجواب الذي ستشيب له الرؤوس وستعجب منه العيون، هو أن باريس سان جيرمان لم يكن برغم الذي فعله قد بلغ مرتبة الأساطير المحجوزة لبرشلونة وريال مدريد وبايرن ميونيخ وغيرهم، ولا برشلونة كان يرضى بأن يداس له على طرف ويرمى بكل إعجازاته في مزابل التاريخ، لذلك ستأتي مباراة الإياب ببرشلونة صرخة مدوية لكرة القدم في وجه من أساؤوا لكرة القدم أو حتى قللوا الإحترام لها.
بعد ثلاثة أسابيع من مجزرة باريس، سيعيش العالم انقلابا على درجة عالية من الجنون، سيتمكن برشلونة من تحقيق ما كنا نظنه مستحيلا، سيهزم باريس سان جيرمان بسداسية وسيصنع واحدة من أقوى "الريمونتادات" في تاريخ كرة القدم، وسيشعر الفرنسيون بهول الصدمة فلا يقدروا على وصف السقوط الشنيع لباريس سان جيرمان، فما وجدوا غير عبارات "الإذلال" و"العار" و"الحطام الشنيع" للدلالة على هول الخسارة، فيما استنفذ البرشلونيون كل الأوصاف الممكنة في معاجم اللغة لوصف الإعجاز الذي كان النيو كامب مسرحا له، والحقيقة أننا جميعا ملزمون بالإعتذار لكرة القدم لأننا ظننا أن زمن المعجزات قد إنتهى، ملزمون بأن نسحب عن باريس سان جيرمان كل التوصيفات العاطفية التي أغدقتا عليها به، وملزمون بأن نعتذر لبرشلونة عندما بعنا جلدها وهي حية ترزق.