التدريب في كرة القدم مهنة لا تشبه أي مهنة أو أي عمل.. فهي مهنة الإحتراق والإنتحار والموت.. والوظيفة التي يحفر صاحبها قبره بيده كل يوم!
فبينما يجلس عديدون على كراسي مهن مريحة، يسعدون بمهامهم ورواتبهم، ويطمئنون على مستقبلهم ومستقبل أولاد أولادهم، يجلس مدرب كرة القدم على كرسي مفخخ، لا هو ولا غيره يدرك متى سينفجر به، لهذا لا يجادل إثنان في أن مدرب كرة القدم رجل منتحر بطبعه يتجول بأصابع الديناميت تحت ملابسه، ويضع قلبه على مشارف الإنفجار في كل لحظة!
أغلب مدربي كرة القدم، إن لم نقل جميعهم احترقوا بنار مهنتهم ألف مرة ولم يتب منهم إلا القليل النادر جدا.. فأريغو ساكي مثلا المدرب الإيطالي الشهير الذي أذهل العالم عندما منح فريق أ. س ميلان كل مساحات الإبداع التي قادته إلى تحقيق اكتساحات مدوية، وحقق معه أكثر من إنجاز، وأحرز مع منتخب إيطاليا لقب وصيف بطل مونديال أمريكا 1994.. كان شجاعا حتى العظم عندما اعتزل مهنة التدريب نهائيا سنة 2005، وفطن إلى خطورة وظيفته المفخخة!! فقد وجد ساكي نفسه أمام خيارين إثنين لا ثالث لهما، مهنته أو قلبه.. فإما أن يستمر في التدريب بعدما خرج سليما من المستشفى إثر الأزمة القلبية التي ألمت به، وإما أن يحافظ على حياته، فاختار الحياة.
وطبعا لا تكمن خطورة الموقف بالنسبة لأي مدرب كرة القدم في كونه معرضا للطرد والإبعاد والمهانة في أي لحظة، وإنما في كونه يعرض قلبه للأزمات في كل وقت، ويضع حياته في منطقة الخطر في كل حين. إن المدرب يكاد يكون الرجل الوحيد الذي يقضي نصف أيام عمره إما على حافة الجلطة الدماغية، وإما على أبواب الذبحة القلبية.
لقد تحولت كرة القدم بالنسبة للمدرب إلى مادة قاتلة من فرط الضغط، والتوجس، والقلق، والشد التي تفرضها المباريات، فهو يخاف على سمعته، ويخاف على مستقبله، ويخشى من ردة فعل النقاد، ومن غضب الجماهير، ومن إقالة مسؤوليه.. فتتحول كل هذه المخاوف إلى غليان من التوتر القاتل الذي يسمم فيه الدم والشرايين والقلب.. ففي كل مباراة يجعل المدرب دماغه وأعصابه وكل أحاسيسه في حالة استنفار وتأهب قصويين، بعد إدراكه التام بأنه يدخل هذه المباراة مثل مقاتل، فإما أن يخرج منها قاتلا، وإما يخرج منها مقتولا.. لكن مع ذلك ورغم كل ذلك، لا أحد يلتمس له العذر في حال ما إذا انقلب عليه الحظ، وعاكسته النتائج، ومني بخسائر متتالية، وغالبا ما يكون كبش الفداء الأول الذي تطاله مقصلة الإقصاء والإقالة والطرد.
إن مهنة التدريب في كرة القدم مهنة معقدة، وإشكالية يصعب أن تحكمها أية ضوابط، فكل ما يعرفه المدرب في وظيفته هو موعد التعاقد، وقيمة العقد، وساعة بداية العمل.. أما كيف سينتهي؟ ومتى سينجح؟ وكيف سيحصل على تقاعد مريح؟ وكيف سيكون وضعه الصحي، وحالة قلبه ودماغه وأعصابه؟ فإن كل ذلك في عالم الغيب. كما أن ظروف المباريات والبطولات التي تكون قاسية في الغالب لا تعترف بتواريخ المدربين ولا بشواهدهم ولا بقدراتهم.. لذلك فإن أي مدرب مهما اشتهر بالكفاءة والمهنية والقيادة، ومهما عرف عنه من قوة الشخصية ومن تجربة السنين، فإن الظروف تخذله أحيانا ما لم يحالفه الحظ.. نعم الحظ..
هذه الخلطة السحرية التي تستعصي دائما على الفهم والتفسير.