في مثل هذا الشهر قبل (32) سنة ولد مشروع صحيفة ورقية صغيرة إسمها «المنتخب».. كان حلمها الكبير أن تحدث ثورة حقيقية في حقل الإعلام الرياضي المغربي.. وسريعا أصبح هذا المشروع في قيمته ودلالته شامخا بحجم البحر.. فأحدث زلزلة في جسد هذا الإعلام، ليس فقط لأن جريدة «المنتخب» باتت أكثر انتشارا.. وأكثر مبيعا.. وأكثر شهرة.. وأكبر عمراً.. ولكن لأنها لعبت دورا رياديا في إعادة بناء صرح الصحافة الرياضية بالمغرب.. وفي تطوير ثقافة رياضيه.
التاريخ أحداثٌ سجله لا يتغير.. وسيظل هذا التاريخ يذكر بأن الصحافة الرياضية المغربية، وخصوصا المكتوبة، كانت إلى حد كبير ينخرها السوس.. وتأكلها العثة.. ولا تتحرك مياهها الراكدة.. وكانت أجهزة النقد الرياضي في المغرب إما معطلة.. وإما شهيتها تحت الصفر.. وحتى الكتابات الكروية التي كانت سائدة.. كانت رغم قلتها تخلو من التميز.. وتتشابه إلى حد كبير كحبات القمح.. فجاءت «المنتخب» بفلسفتها.. ومهنيتها.. وإرادتها لتقود ثورة التصحيح والتطور.. وتعلن إنقلابا جذريا على الوضع.
أنا لا أدعي أن «المنتخب» كتوماس أديسون اخترعت المصباح الكهربائي.. أو كألفرد نوبل اخترعت البارود.. لكن الحقيقة التي لا غبار عليها أنها بدلت الكثير من العادات في المشهد الإعلامي الرياضي المحلي.. سواء على مستوى الطرح.. أو على مستوى التناول.. أو على مستوى التحليل.. أو حتى على مستوى الخبر.. كما أنها غيرت وجه الثقافة الرياضية لدى الكثيرين.
كانت معادلة «المنتخب» - ولا تزال - أن تقدم عصارة نهجها وأسلوبها وفلسفتها بالإعتماد على الصدق.. والجرأة في التناول.. والدقة في التحليل.. والحياد في النقد.. وأن تسافر بأقلامها وآرائها على خط ناري مشتعل لا تراعي فيه سوى نبض الشارع.. ومصداقية المهنة.. وحرية الكلمة.. لذلك حتى عندما أغضبت جامعات.. ومسؤولين.. وأندية.. ومدربين.. ولاعبين.. ظلت شهرتها في تزايد مستمر.. تلتهم أرقام الطبع.. والتوزيع.. والمبيعات عاما بعد عام.. ولأول مرة في المغرب يحقق مشروع إعلامي نجاحا مهنيا وماليا.. بلا تمويل.. ولا دعم.. ولا مداخيل إعلانات.. ولا هم يحزنون.. وفقط بالإعتماد على القارئ.
بعد ظهور «المنتخب».. أو بالموازاة مع ظهورها ولدت جرائد.. وصحف.. ومطبوعات رياضية جديدة.. وبالعشرات.. لكنها إما نزفت.. وإما انهارت.. أو تعبت.. أو ضجرت.. فتوقف أغلبها عن الصدور.. دون أن تسلب «المنتخب» قارئا واحدا.. ودون أن تسرق ومضة ضوء من بريقها.. حتى إن شركة التوزيع «سابريس» وقعت مرة في ذهول كبير عندما أفرزت حساباتها أن العائد الإجمالي لواحد من الأعداد زاد بمبلغ نسخة واحدة.. أي أن مرجوعات هذا العدد لم تكن صفرا فقط.. بل إن نسخة واحدة بيعت مرتين!!
صحيح أن المشهد الإعلامي - بشكل عام - تغير كثيرا في السنوات الأخيرة إثر تناسل العشرات من المواقع.. والبوابات.. والصحف الإلكترونية، بسبب ثورة المعلوميات وعصر التواصل الرقمي.. وتوقعنا أن يسمو هذا الواقع بمهنة المتاعب.. وتتحسن أوضاع الكتابات الصحفية.. ويتغير منطق الأشياء نحو الأفضل.. لكن سرعان ما اتضح - حتى الآن على الأقل - أنه عصر «الإنحطاط».. لم يخدم الإبداع الصحفي في شيء.. ولم يقدم للكتابة الصحفية ما يشفع لها بأن تسمو نحو التميز.. وترقى نحو مزيد من الجودة.. فالمواقع.. والبوابات.. والصحف الإلكترونية أتعس من بعضها البعض.. فهي تمضغ الأخبار!! وتمضغ الأحداث!! وتمضغ الكتابات!! وتقدم مواضيع على شكل «ساندويتشات رديئة» دون أن تراعي ذوق القارئ.  
وفي خضم هذا الواقع ظلت «المنتخب» وفية لنهجها.. تمارس جلدا حريريا تهدف من خلاله إلى نقد بناء معتمدة على حرية الكلمة، وهي أبسط سلاح.. لكن متى ازدادت العلة.. والخطأ.. والإعوجاج.. إنقلبت «المنتخب» من جلاد حريري إلى مسدس.. أو مقصلة.. أو حبل مشنقة، حتى لا يتحول الداء إلى عدوى.. لذلك كلما ازدادت نقدا تعلق بها القراء أكثر.. ولكما ازدادت مبيعا أدركت أنها تكتب على مساحة كبيرة من العطش.. وأنها تروي بسخاء كبير ظمأ الكثيرين.
«المنتخب» لا تحتاج مني أن أكيل لها المديح.. أو أن أرميها بالورد.. لكن هذه الصحيفة التي تحتفل بعيدها الـ (32).. كلما تذكرتُ أنها البيت الذي شربت من ثديه حليب المهنة.. والمدرسة التي احتضتني 11 عاما.. فتحْتُ الجرح الذي يطيب لي أن أتذكره.. وتحولت الذكرى في داخلي إلى خليط يعجنُنِي بالزهو والفخر والدمع معا.
تحية كبيرة إلى «المنتخب» في عامها الـ (32).. وعقبى لألف سنة..
وتحية صادقة إلى فرسانها المغاوير.. وفي مقدمتهم مصطفى بدري المدير المسؤول وبدر الدين الإدريسي رئيس التحرير.