وقد أنهى مونديال الإستثناءات دور المجموعات، ليعرج فورا على الأدوار الحاسمة والتي يجمع النقاد على أنها أدوار الحقيقة، حيث تنتفي الحسابات، تتراكم في الذاكرة الكثير من الأشياء الدالة على استثنائية هذه النسخة من كأس العالم، والتي تؤكد فعلا ما توقعناه بناء على معطيات لا تحتمل التشكيك في صدقيتها. من أول هذه الأشياء، أن قطر المجروحة بخروج العنابي من الدور الأول مهزوما في مبارياته الثلاث، لم تتأثر أبدا بانكسار الحلم في تدبيرها لكأس العالم، فالهامات مرفوعة والصدور مفتوحة، وقطر التي تنوب عن كل العرب في تنظيم أكثر الأحداث الرياضية كونية، لا تتواني في جعل هذه النسخة ملفوفة بعطر عربي فاخر، نسخة فيها الكثير من فخامة الضيافة. ولعلكم لاحظتكم كيف أن أبواق التضليل قد سكتت، وكيف أن قوى التشكيك والتخريب عادت خائبة ومهزومة إلى جحورها، فلا أحد على الإطلاق سمح بأن تستباح الأعراض باسم زيف كبير يحمل على النضال الشريف لتثبيت حقوق الإنسان، ونحن أوطان العرب، محمولون بل ومجبولون بفرض ديننا الإسلامي الحنيف على تكريم بني الإنسان. نجحت قطر إذا في أن تكون عاداتها وتقاليدها وأعرافها خطا أحمر لا يقبل التجاوز تحت أي ظرف، وكيف لقطر التي أنفقت على هذا المونديال ما أنفقته بسخاء فاق كل الحدود، أن تسمح بمن يأتون ضيوفا عليها أن يشترطوا ويملوا ويأتمروا على من أكرم الوفادة، ونحن من نقول في مأثورنا المغربي «الضيف ما يتشرط ومول الدار ما يفرط». ثاني هذه الأشياء أن مباريات دور المجموعات كرست ما ذهبنا إليه، عند حديثنا على استثنائية النسخة، في توقيتها، فقد شاهدنا مباريات تشد الأنفاس بإيقاعات عالية، ومن غادر من المنتخبات الدور الأول، إنما غادر كثير منها لأنها افتقدت للمعيار التقني والبدني والتكتيكي الذي هو من أكبر محددات كأس العالم، بخاصة عندما ينهي الدور الأول أكبر عملية تصفية تحدث في كاس العالم، صحيح أن هناك من ظلم، وأن هناك من خانه الحظ، لكن العنصر المشترك بين غالبية المنتخبات التي عبرت للأدوار الحاسمة، أنها ملكت خاصية التنافس على المستوى العالي. وعندما نحزن على إقصاء منتخبات بعينها، فإننا نحزن على أن المنتخب السعودي لم يتمكن من تكرار الظهور الهلامي الذي كان عليه في مباراته الإفتتاحية أمام الأرجنتين، فقد بدا واضحا أن حالة الإلهام التي كان عليها الصقور في مواجهتهم لزملاء ليونيل ميسي، وقد أنتجت لنا ملحمة كروية بالمعنى الصريح للكلمة، ذاك الإلهام غاب عن الصقور وهم يواجهون تواليا منتخبي بولونيا والمكسيك، ولعل هذا أكثر شيء يجب الإشتغال عليه عند الوصول لمنافسة بقيمة كأس العالم، أن يحضر الإلهام في كل المباريات وليس في مباراة واحدة. وأحزننا أن المنتخب التونسي انتظر مباراته الثالثة ليوقع على فوز بقي للتاريخ، وكيف لا يكون فوزا تاريخيا وقد تحقق على حساب فرنسا، بطلة العالم. لكن، أما كان من الأفضل أن يقترن ذلك بإنجاز تاريخي أكبر منه، التأهل لأول مرة للدور الثاني. لقد كانت مباراة أستراليا هي المدخل الأكبر للتاريخ، لو أن نسور قرطاج فازوا بها، لكنهم للأسف خسروها وسمحوا للكانغارو الذي خسر مباراته الأولى برباعية، أن يعبر للدور الثاني مستفيدا من فوزين على الدنمارك وتونس. وكيف يغيب عنا مشهد إبن الأسطورة الرئيس الليبيري جورج ويا، وهو يقود منتخب الولايات المتحدة الأمريكية للتأهل للدور ثمن النهائي، بعد فوزه على إيران في لقاء تحلل من كل الغيوم السياسية. الطريف في العناق بين جورج الأب وتيموتي الإبن، أن ما حلم به جورج ويا أول لاعب إفريقي يحصل على جائزة الكرة الذهبية الكونية، من أن يلعب كأس العالم وقد أخلص من البداية لألوان بلده ليبيريا، وجده يتحقق لابنه تيموتي الذي اختار اللعب للولايات المتحدة الأمريكية وهو المزداد بفرنسا، ولعله أحسن الإختيار، لأنه يعيش تجربة المونديال وما أجملها، بل ويواصل السفر في دروبها السحرية، بعد أن تأهل أبناء العم سام إلى الدور الثاني. هذا مجرد غيض من فيض، ولعل وثيرة المشاهد الجميلة والمثيرة في نسخة المونديال الإستثنائية ستتدفق بغزارة مع دخول النهائيات البحار الهائجة