هو التوهيم بعينه ذاك الذي مارسه الفريق الوطني على مباراته أمام جنوب إفريقيا وقد أمن التأهل للدور ثمن النهائي في أعقاب فوزيه على ناميبيا وكوت ديفوار، فما بحث الفريق الوطني خلال النزال، إلا في مناسبات قليلة جدا عن رفع الإيقاع وإضفاء عنصر السرعة، بخاصة على انتقاله من الشق الدفاعي إلى الشق الهجومي في منظومة اللعب، إلى الدرجة التي تفاجأ فيها المدرب هيرفي رونار بنفسه، عندما قال في الندوة الصحفية التي أعقبت المباراة، أن الاسود لعبوا الجولة الأولى كالشيوخ، أي أنهم أبطؤوا الإيقاع لدرجة أعطوا فيها الإنطباع على أنهم غير معنيين بهذه المباراة.
هناك أشياء تعشش في رؤوس اللاعبين، ولا يستطيع أي خطاب فني من المدرب، مهما علت حدته وتصلبت مفرداته أن تشطب على تلك الأشياء، فرونار ما تعمد أن يلعب مباراة جنوب إفريقيا بتشكيل اقترب بسبعين بالمائة من التشكيل الرسمي الذي شاهدناه في مباراة كوت ديفوار، إذ لم يلحق تغييرات بشرية سوى بحراسة المرمى وخط الدفاع، إلا لأنه كان يدرك أهمية المباراة أولا، وبأنها ليست تحصيل حاصل ثانيا، وبأنها تمثل للفريق الوطني أهمية كبيرة جدا ثالثا، أهمية هي أكبر من أن الفوز على البافانا بافانا سيكون بمثابة إنجاز تاريخي للفريق الوطني.
هذه الأهمية الإستراتيجية، ما انحاز لها لاعبو الفريق الوطني في مستهل مباراتهم أمام جنوب إفريقيا، إذ عمدوا إلى تبطيء الإيقاع وتوهيم الصورة، فقد جزموا بأن من يجب أن يصنع اللعب ويحدد للمباراة إيقاعها هو المنتخب الجنوب إفريقي الذي دخل المباراة وفي وعائه ثلاث نقط لا تضمن له بالمطلق التأهل للدور ثمن النهائي.
وقد وجدنا أن الفريق الوطني لا يكون في العادة مرتاحا عندما لا يكون هو بالأساس صانعا للعب ومتحكما في الإيقاع، فبرغم أن الحكم المساعد حرم يوسف النصيري من هدفه الثاني في الدورة عندما احتسب عليه تسللا غير موجود، وبرغم ما كان من غارات هجومية قليلة وغير ذات مفعول، فإن الفريق الوطني قدم شوطا أول غير متطابق مع ممكناته الجماعية، وأبدا ليس من معياره التكتيكي، وهو ما استوجب ردة فعل هائجة من هيرفي رونار في فترة الراحة بين الشوطين، ليقدم الأسود نسبيا في الجولة الثانية أداء يقترب كثيرا من ممكناتهم الجماعية، فمعه خفت كثيرا خطورة جنوب إفريقيا ولو أنها لم تكن بالصورة المقلقة في الجولة الأولى، بل ونجح الأسود في صناعة الفرص اللامعة والتي كان منها انفراد يوسف النصيري الذي لم تكن له خاتمة جميلة، ومنها التسديدة الرائعة التي صوبها أشرف حكيمي وصدها القائم، ومنها الفرصة التي أثمرت هدفا جميلا للكاريزماتي والمكافح امبارك بوصوفة، هدف أعطى الفريق الوطني تأهلا للدور ثمن النهائي بالعلامة الكاملة لأول مرة في تاريخ مشاركاته بنهائيات كأس إفريقيا للأمم، ومكنه أخيرا من فك عقدة منتخب جنوب إفريقيا الذي لم يسبق لنا أن فزنا عليه.
وكما طالبت بعد مباراة كوت ديفوار الرائعة والمثالية، أن لا يأخذنا الغرور ولا الخيلاء ولا جنون العظمة، من الذي كان من أداء نموذجي جعل كل من يتابع كأس إفريقيا للأمم يمعن في ترشيحنا للمنافسة على التاج الإفريقي، فإنني اتمنى أن نبقي على ذات التواضع بعد الذي أنجزه أسودنا وهم يحققون العلامة الكاملة وتظل الأرجل مثبتة في الأرض لأن القادم سيكون أصعب بلا أدنى شك..