يستطيع مشهد ريال مدريد بما مر عليه هذا الموسم، وعلى الخصوص في الأسبوعين الأخيرين، أن يكون نمطا يدرس في كيفية إدارة الأندية ذات القواعد الجماهيرية العريضة وذات المرجعيات التاريخية الكبيرة، وأن يكون صورة لما يمكن أن تكون عليه الجرأة في صناعة القرارات المؤلمة والقوية في الأزمنة الحرجة والساخنة.
كان المنطلق صادما ومجسدا لحالة التنطع التي يمكن أن يصلها رجل القرار الأول، فتورث في النهاية قرارات خاطئة ستكون مصدر تعاسة للفريق وللجماهير، فقد أصم فلورنتينو بيريز أذنيه، وما استمع لحظة لصوت العقل الذي كان يقول بضرورة أن يتخلى عن عنتريته ويخول للأسطورة زين الدين زيدان الذي منحه الثلاثية الأوروبية التاريخية، حق مباشرة التحويرات التي يراها ضرورية لكي يكمل الريال المسير في طريقه الأنطولوجي، بملاحقة المزيد من الألقاب والتيجان.
ما فعله بيريز رئيس الريال، وفريقه بصدد الإحتفال بالنجمة الأوروبية 13 بعد نهائي بطولي أمام ليفربول، أنه تصلب في تقدير مطالب كريستيانو رونالدو، وكأني به يفتح أمامه باب الخروج، وهو الأمر الذي نفذه الدون بلا أدنى تردد، وقد كان يعرف أن في الناصية الأخرى للشارع يقف سادة جوفنتوس وبيدهم عقد خرافي ومهرا لا يصدق، لمن ظن البعض أنه شاخ ودنا من الأفول.
ليس هذا فقط، فمع توقيع بيريز لوثيقة المغادرة لمن كان في مواسمه السبعة بقميص الملكي يسجل 50 هدفا كل موسم، سيقرر زين الدين زيدان الرحيل وقد أيقن أن الرئيس لا يمكن أن يفتح أمامه الخزنة ليجلب للريال العناصر التي يمكنها بعث هواء جديد في رئة الفريق، بل إنه استسهل كثيرا خروج الدون، وهو الذي يملك الشفرة السحرية التي قادت الملكي لكل تتويجاته الخرافية، ولأنه ريال مدريد المؤسسة المحصنة ضد الهزات الخفيفة والعابرة، فإن بيريز سيسحق سريعا كل حملات الإستهجان والتشكيك، وسيمضي الريال باحثا مع لوبيتيغي، المدرب الذي سرقه من حلمه المونديالي، عن الذي ينسيه في الأسطورتين زيدان ورونالدو، إلا أن وقت الإستجمام مر بسرعة البرق، ليتكبد الريال هزيمة مهينة بالنيو كامب أمام الغريم برشلونة، ما وجد بيريز سبيلا لإطفاء لظاها، غير إقالة لوبيتيغي والإستنجاد بالأرجنتيني سولاري في محاولة لاستنساخ تجربة سابقة مع زيدان الذي كان تعيينه مدربا للريال بدلا من أنشيلوتي ضربا من ضروب العبقرية.
وبين شك ويقين في صواب وعقلانية الإختيار، وسعي حثيث للتغطية على التداعيات السيئة للإنفصال في وقت واحد عن الأسطورتين، سارع الريال الخطى محاولا الإلتصاق بكل الرهانات الموسمية، إلى أن جل الأسبوع الذي يوصف بأسبوع الجحيم، أسبوع سيمنى فيه ريال مدريد بثلاث هزائم حركت براكين الغضب النائمة وجعلت بيت الملكي عرضة لزلزال عنيف.
خسر الريال أولا برباعية نظيفة من الغريم برشلونة بالبرنابيو، ليودع غير مأسوف عليه مسابقة كأس الملك من دور النصف، ثم عاد فحصد هزيمة أخرى بعد ثلاثة أيام من ذات الغريم، فكان ذلك إيذانا بخروجه من السباق نحو لقب الليغا وقد اتسع الفارق بينه وبين البارصا إلى 12 نقطة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن ريال مدريد سيصعق بعد ثلاثة أيام أيضا من أطفال الأياكس برباعية ودائما بالبرنابيو، ليرمى بالريال لأول مرة منذ سنوات من الدور ثمن النهائي لعصبة الأبطال.
طبعا سيحترق بيت الريال بنار مستعرة، وسترتفع في كل مكان أصوات الغضب والشجب، وسيكتب البعض متشفيا عبارة «بيت الريال مغلق للهدم»، وألقى الجميع باللائمة على الرئيس فلورنتينو بيريز، داعيا إياه لتقديم استقالته، فلا أحد غيره متهم بارتكاب جنحة إذلال الريال وجماهيره، ولأنه الريال، البيت الذي إذا احترق وجد بالقرب منه خراطيم المياه لإطفاء اللهب، وإذا تداعت حيطانه بفعل الشرخ وجد تاريخا يسنده ويحفظه من الإنهيار، فإن الرئيس بيريز طلب الحكماء على عجل لاجتماع يفكك خيوط الأزمة في أسلوب تدبيري عال القيمة، ومن هذا الإجتماع سيخرج بيريز بالحل السحري، بالقرار الذي لم يكن أحد يتوقعه، القرار الذي سيعيد البسمة لشفاه كانت ترتجف خوفا وسينشر التفاؤل في سماء كانت ملبدة بغيوم الشك، قرار إعادة زين الدين زيدان لتدريب الريال مع وعد صريح بفتح الخزائن لاستقطاب من يراهم زيزو من النجوم، قادرين على صناعة الزمن الجديد للريال.
أبدا لم يركب بيريز رأسه كما هي عادته، فمع عودة زيدان يكون قد كفر عن ذنب ارتكبه، ويكون في ذات الوقت قد انحنى أمام صوت العقل والجماهير التي ما كانت تريد فراقا عن الأسطورة، لا حاجة لكي ننتظر ما سيأتي به زيدان للريال، ولكن الحاجة لأن نتعمق في قراءة المشهد بكل تفاصيله، فهو يعطينا صورة للعبقرية التي يجب أن يكون عليها كل من يأتي لإدارة فرق لأسمائها طنين في مسمع التاريخ، صورة عن القدرة على صناعة القرارات القوية في الأزمنة الصعبة.