حالة الترويع التي عاشها محيط المجمع الأميري مولاي عبد الله بالرباط، خلال كلاسيكو الجيش الملكي والرجاء البيضاوي الأربعاء الماضي، والتي وثقتها صور مؤلمة ومخزية، تداولها المقبلون على مواقع التواصل الإجتماعي، تظهر درجات الإنفلات التي بلغها مقترفو جنح العنف والتخريب، لا نستطيع أن نحشرها في خانة الحالات المعزولة أو الإستثنائية، والتي لا تستوجب تحركا جماعيا وقويا من قبل كل من له صلة بكرة القدم وبأمن الملاعب وبسلامة المنشآت الرياضية وبحياة المواطنين، وينبغي أن نقر معها بفشل المقاربات أيضا.
أن يتحول الملعب في وقت إلى محرقة، بفعل إطلاق «الفلامات» والشهب الإصطناعية بأعداد مهولة من دون أن نعرف كيف يتم تهريب هذه الشحنات الحارقة لمسارح العرض، وأن يبرز فعل الإجرام في المدرجات وفي محيط الملعب ويذهب ضحية ذلك، متفرجون وموظفون عموميون ومارة لا ذنب لهم سوى أنهم اختاروا المرور بمحاذاة المركب في وقت نحس، فهذا يبرز حقيقة، كم نحن بعيدون عن تطويق أزمة العنف في الملاعب الرياضية، وكم هي قاصرة كل المقاربات التي عالجنا بها الظاهرة، وكم هو خطير أن لا تكون هناك خلية يقظة لا تهدأ عن مطاردة هذا العنف، بكل الوسائل المتاحة، فتجفف المنبع بعد الآخر وتكون لها الإستباقية لنزع فتيل هذا الشغب المبرمج.
وحتى قبل أن نقرع أنفسنا ونلاحقها باللوم، على أن كل مقارباتنا الأمنية والزجرية والتوعوية لم تفلح في تطويق هذا العنف المركب، الدال على جنوح المجتمع إلى السلوكات المعنفة، فإنني أجزم قاطعًا أن هذا الذي رصدناه خارج الملعب والذي يعتبر بلا أدنى شك، جرائم معلنة ومتبثة، لا يمت بصلة لثقافة الإلتراس حتى لو كان هناك من يلصق بها صفتي التطرف والعنف، وحتى لو دلت على ذلك، بعض الفصول الدموية التي شهدتها عدد من المباريات هنا في المغرب أو في دول أخرى، لأنني لا أستطيع أن أفهم هذا التناقض الصارخ الذي تظهره الصورة، فكيف لألتراس يبدع في تصميم «التيفوهات» ويصل لدرجات جد متقدمة في الإبتكار عند رسم اللوحات الكاليغرافية بالأبعاد الثلاثية، أن يكون عنيفا وهمجيا وفاقدا للإنسانية؟
كيف لحس فني مرهف يتغذى من القيم الفنية أن يتحول فجأة إلى آلة لتصدير العنف والموت؟
هناك حلقة مفقودة لابد وأن نجتهد لإيجادها، لأننا لو وجدناها، لاختصرنا الطريق نحو الحل، ولأمكننا تأكيد حقيقة أن هذه «الإلتراس» لا تستطيع أن تتأكد من سلامة وعي من يحتمي بها أو من يتخندقون بداخلها متذرعين بالوفاء للنادي، ولا تملك القدرة على اتقاء شرورهم أو ضبطهم أو حتى صرفهم عن شتى أنواع العنف الذي يأتون به، ودليل ذلك أن هذه «الإلتراس» غالبا ما كانت تتحرك لتندد بأي عنف دموي مرتكب، بل إنها تتبرأ منه، معتبرة أن هذا التوحش والإجرام لا يدخل في ثقافتها حتى لو تأسست إيديولوجايتها على رفض الآخر، لتوجسها الدائم من أن الآخر متواطئ.
ما حدث بالرباط، وقد تحركت حياله الآلة العقابية داخل الجامعة، فأشهرت الوكيلو لأربع مباريات وضخمت فاتورة العقوبات المالية بسبب الكم الهائل من «الفلامات» التي أطلقت، يجب أن يعيد كل الخلايا الرياضية والأمنية والسوسيولوجية والإعلامية لطاولة النقاش، أولًا لتقييم الإستراتيجية المعلنة لمكافحة العنف وتجفيف منابعه، وثانيًا للإعتراف بأننا فشلنا في كل مقارباتنا للظاهرة بهدف السيطرة عليها، وثالثا لنعيد الإستماع إلى هذه الإلتراس، المتهم الأول في تصدير هذا العنف للملاعب الرياضية ولمحيطاتها، وقد يكون ضروريا امتلاك نوع من الصرامة في معالجة الوضع، بالوصول لقرار حظر تنقل الجماهير في المباريات العالية الحساسية، وأيضا الإسراع في تفعيل المقاعد المرقمة لضبط الجماهير ومنع كل من صدر في حقهم حكم قضائي بسبب جنحة العنف، بالدخول للملاعب لفترات طويلة.
لا أمل في كرة قدم إذا لم يتم تنقية محيطها من كل ما يشجع على العنف وعلى التطرف في المناصرة وعلى قتل القيم الجميلة لرياضة يعشقها ملايين المغاربة..
رجاء لا تحرقوها..