ما أكثر ما تقذف به هذه الأيام وسائط التواصل الإجتماعي من تعليقات، لست هنا بصدد تحديد نوعيتها ولا منابعها الفكرية ولا درجة الأخذ بها، ولكنني ومناسبة ما نحن فيه من حجر صحي، يجعلنا نقبل بوثيرة تزيد كثيرا عن المألوف، على ما ترمي به هذه الوسائط، أؤكد على درجة التغلغل والإختراق التي بلغتها هذه الوسائط في مشهدنا الحياتي، حتى أنها حجبت بشكل مثير للحزن وسائل الإعلام الحاملة للمرجعية التاريخية في مجال الإعلام وصناعة الرأي العام الوطني، وجعلت صروحًا إعلامية انبنى عليها المسار الديموقراطي للمغرب، مجرد رقم صغير جدا في معادلة البناء، بناء الوطن وبناء المشروع التنموي الجديد، ولغاية الأسف هناك من هم فرحون لذلك.
قد تكون هذه إشكالية مركبة، تتطلب مقاربة نوعية لتفكيكها وإصدار قرار تاريخي بشأنها، فمع تقديري الكامل للفتحات الكثيرة لوسائط الإتصال الإجتماعي والمساحات المحجوزة لها بقوة التحولات، وأيضا لما تأتي به من تنوع ومن إفراج عن أراء جيدة كانت لسبب من الأسباب مصادرة، إلا أن ما فضحته جائحة «كورونا» من تعديات على قانون وأدبيات مهنة الإعلام والإتصال، والإستباحات الفاضحة للعرض المهني والترويج لأخبار كاذبة لتكون حطبًا لنار الفتنة، يلزمنا بعد انزياح الجائحة وزوال الغمة أن نقرر بشأن هذا المشهد الصحفي الوطني، الذي بات محتقنا لا يُعْرَف فيه من الجاني ومن المجني عليه، ولا ينضبط فيه من لم يخضعوا لتكوين أكاديمي لإشارات المرور، ولا نعرف لمن يوقدون نار الفتنة خلسة، مذهبًا ولا أصلًا..
في وقت تُكْبِر فيه الدولة ويُكْبِر المغاربة الشرفاء الذين لا يتغير لهم لون في حب الوطن، الدور الكبير الذي يقوم به الإعلام الوطني الملتزم في الوقوف مع رجال القوات العمومية ورجال السلطة وأعوانها والعائلة الطبية بمختلف تخصصاتها ورجال النظافة في الجبهة الأولى، لدفع هذا الخطر الداهم عن المغرب وعن المغاربة، بالتصدي للشائعات المغرضة وقطع حبل الكذب وفضح المندسين الذين يتحينون هكذا وضع، لينفتوا السموم وليزعزعوا الوحدة الوطنية.
في وقت يُكْبِر المغاربة، التضحية التي تأتي بها وسائل الإعلام الوطنية الجادة والملتزمة بالمبادئ الرفيعة التي قامت عليها الصحافة، بل وخاضت من أجلها معارك نضالية شريفة، ومن بينها طبعا جريدة «المنتخب» التي تفخر كزميلاتها من الجرائد الملتزمة، بالبقاء في خط المواجهة في تحد رائع لكل أنواع الشلل الذي يضرب الحياة الإقتصادية، في وقت التعبئة الوطنية لمواجهة الجائحة، يأبى القلة من المارقين إلا أن يواصلوا عبر جبهات متعددة حربهم المعلنة والمبرمجة ضد الصحافة الجادة، غايتهم إحلال التفاهة والميوعة والرداءة وتحطيم مجتمع القيم.
إن لجائحة «كورونا» برغم أهوالها ومخاطرها وآفاتها التي لن تثني للمغاربة عزيمة ولا إرادة، دروسًا بليغة، سنجلس بعد انزياحها، ومعنا العالم كله، لنتفحصها ونتعمق في قراءتها، ومن هذه الدروس البليغة أن ما يبنى على رمال فمصيره أن يتهاوى عند أول موج، وأن مجتمعًا يقوم على الإقتصاد فحسب، لا على القيم الروحية والإنسانية هو مجتمع آيل للسقوط، ومتى لم نتجند جميعًا لإعادة بناء مجتمع المعرفة والقيم الذي ينتصر للإنسان في أمنه وأمانه وصحة جسمه وسلامة عقله، فإننا سنكون أخف من قشة على ظهر الأرض يقصمها أي ريح عابر.
مجتمع المعرفة والقيم الذي يعلي شأن الفكر والعلم ليقوي الإقتصاد ويشجع على الصناعة، ليس له حاضن ولا صائن غير الإعلام المصداقي والمستقل والناقد لكل القضايا، بالأدوات النقدية المتعارف عليها، الإعلام الحامل لرسالة البناء لا الإعلام المستهجن والمستنسخ الذي تعشش فيه السوداوية ولا يجيد إلا لغة التحبيط والتحنيط وأحيانًا «التهرنيط»، عذرًا لأسماعكم..
لئن لعننا في سرنا وعلننا وباء «كورونا» لكم الرعب الذي زرعه في يومياتنا، فإننا نشكر هذه الجائحة لأنها زادتنا جميعًا يقينًا، بأن في مشهدنا جائحة أخطر، هي جائحة التمييع والتسطيح، وبأن التفاهة مهما برعت لن تصنع فنًا، والرداءة مهما تطاولت وتجملت لن تصنع فكرًا ولا وسائط التواصل الإجتماعي مهما تأدبت واستطالت، يمكنها أن تلغي تاريخا طويلا من الصحافة، أو أن تمسخ إرثا هو جزء لا يتجزأ من تاريخ مغربنا، من ماضينا ومستقبلنا وحاضرنا.
على هذا اليقين سأبقى إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا..