ما خلدنا يوما لنومنا آمنين مطمئنين، وما أمكن لنا أن نجول طولًا وعرضًا ربوع هذا الوطن الجميل، نستنشق هواءه الطيب ونمتع العين بسحر وروعة طبيعته السالبة للعقول، من دون أن يعكر صفو هذا التجوال أي شيء، إلا لأننا أيقنا اليقين الكامل أن على حدودنا وثغورنا البرية والبحرية وحتى الجوية، ينتصب شامخين كالجبال، جنود لا ترف لهم جفون ولا تغمض لهم عيون، يسهرون على حمى الوطن، مرابطين في كل المعابر، قلوبهم من حديد، فلا خوف ولا وجل، بل شجاعة وعزم وإقدام.
لهذا الجيش المغوار ندين بالفضل الكثير على أننا نرفل ولله الحمد في نعمة الأمن والأمان، ولهذا الجيش نرفع مع كل صلاة أكف الضراعة شاكرين وممتنين، واليوم والمغرب يخوض إسوة بالبشرية جمعاء، حربا ضروسا وضارية مع جائحة كورونا، من أجل دفع البلاء والقضاء على الداء، يحق لنا أن نفخر بجيشنا الأبيض بذات فخرنا بجيشنا المرابط على الحدود وأمننا المنتشر في كل شبر من هذا الوطن.
هذا الجيش الأبيض هو فيالق الأطباء الذين ينتشرون في كل ربوع المملكة، يقفون في الخط الأول للمواجهة لدفع الخطر وجبر الضرر وتصريف ما قضى وحكم به القدر.
ولأنها معركة من طينة مختلفة، بتركيبة مختلفة، العدو فيها لا يرى بالعين المجردة، ولا لون ولا شكل له، وله مهارة عالية في التخفي وحتى في الخساسة، فإن جيشنا الأبيض يقبل على هذه المعركة الجرثومية بكثير من الشجاعة والوطنية، ولعل الصور المنقولة إلينا كل يوم من كل جهات المملكة هي أصدق تصوير لحجم التضحيات التي تبرزها طواقمنا الطبية الوطنية في مجابهتها للوباء وفي درئها عنا مخاطره.
أطباؤنا يدخلون يوميا أعشاش وبؤر الوباء، يقاتلون من إجل إنقاذ وإغاثة المنكوبين والمصابين، يحاربون بما ملكت أيديهم من أسلحة لربح معركة قل نظيرها في تاريخ الإنسانية الحديث، ويضحون في ذلك بحياتهم وما أروعها وأجلها من تضحية.
تحدثت قبل يومين مع صديقي الدكتور بوجمعة الزاهي الطبيب السابق للفريق الوطني ونادي الجيش الملكي، والذي حببني في شخصية وكاريزمية بل وإنسانية الطبيب، لما اجتمع فيه من الشمائل ولما عظم عنده من نكران ذات واستعداد دائم لإغاثة الناس، وكانت مناسبة حديثنا ما نعيشه اليوم من تطورات في حربنا مع جائحة "كورونا"، وحاجتنا كمغاربة إلى رفع سقف اليقظة والإلتزام إلى مستويات أعلى، لأن التفاقم الحاصل في عدد المصابين سببه الأول عدم التقيد الكامل بالتدابير الإحترازية والحاجزية، التي من دونها لا يمكن لأي مغربي أن يقي نفسه خطر هذا الوباء الفتاك.
نفذ صديقي الدكتور الزاهي إلى المنطقة المعتمة في ساحة المواجهة، وهي المتعلقة بأمرين اثنين، أولهما الخرافات التي تصدر عن ما يقال أنه طب بديل، والتي تقول أن هناك من الأدوية التقليدية ما تحول بين الفيروس وتفشيه بين الناس، وثانيها الوعي الشقي لدى بعض الناس الذين لم يأخذوا إلى اليوم هذا الوباء مأخذ الجد، فلا انصاعوا للتعليمات ولا تقيدوا بالتدابير الإحترازية، وهم وقود النار في بؤر الوباء، وكان من بين ما نادى به الدكتور الزاهي في حديثه معي بنفس مستوى الصدقية والغيرة العالي الذي عرفته عنه، إبداء الصرامة في تطبيق نواهي الحجر الصحي وإلزامية وضع الكمامات لأنها المنقذ الوحيد من الإنتشار السريع للفيروس، هذا إذا لم يجر فرض الحظر الصحي بالكامل.
وكان أيضا مما قاله لي الدكتور الزاهي بنبرة حادة، دالة على تأثر نفسي بما يشاهده يوميا في ساحات المواجهة بالمستشفيات والمصحات: "قد تكون شهادتي مجروحة في أطبائنا لأنني من قبيلتهم، وأفتخر بالإنتماء إليهم، إلا أنني أقف إعجابا واحترامًا لجيشنا الأبيض المرابط على مدار الساعة، ومنذ أول يوم دخلت هذه الجائحة بلادنا، في جبهة المواجهة من أجل مقاومة هذا الوباء الغاشم، إنهم نساء ورجالا يكتبون في رأيي ملاحم من البطولية والإقدام، إنهم يذهبون في كل وقت وحين إلى ساحة المعركة بصدور عارية يملؤها حب الوطن وسمو الرسالة الإنسانية والصبر على الشدائد، إنهم بالفعل رحمة مهداة للمغاربة، ثم إنهم يحققون معجزات طبية بإمكانيات جد محدودة، فلنساعدهم في معركتهم من أجل هزم الفيروس، بالدعاء لهم وأيضا بالإلتزام والتقيد بالتدابير الصحية وبخاصة البقاء في البيوت، رحمة بهم وهونا عليهم وعونا لهم".
بعد هذا التوصيف الرائع من الدكتور الزاهي للجيش الأبيض، لا أملك إلا أن أقول، جنودنا صقور تتبعها نسور، أسود تتلوها فهود، يسكنون الخنادق ويعشقون رائحة البارود، ما تركوا ساحة الوغى ليحموا أرض الجدود، هم رحمة من الله ليس لها حدود..
طوبى لوطني بجيشه الأبيض.