من أقام لها جنازة افتراضية.. وشيع لها موكبا.. وحفر لها قبرا.. ووارى جثمانها الثرى.. 
من وأدها وقرأ عليها بقلب وبضمير المتشفي تراتيل الوداع..
ومن قال أنه شهد في خلسة الكرى، سقوطها المريع من برج الحياة، فتكسرت لها الضلوع وتحطمت فيها الحنايا.. ولا أمل في بقائها على قيد الحياة..
ومن قال أنها أحيلت، مع سبق تصريح من موجبات التطور الهائل لوسائط الإتصال، على المعاش، فلا عاد لها صوت يرتفع في المدائن، فليرحمها الله..
وما كان ذلك كله إلا وهما، بين الناس شاع وانتشر..
تلكم هي الصحافة الورقية التي هي قطعة من روح عصر مضى وما انتهى، هي جزء من فيسفساء الفكر والعصر، هي الضمير الحي لوطن لا يمكن أبدا أن يضمر أو يستتر، هي الصوت الذي ما زال يجلجل في المشهد الإعلامي الوطني، لا تستطيع كل الأصوات الإعلامية الوليدة أن تخرسه لأن حياتها من حياة هذه الصحافة الورقية..
كم قاسيت، أنا الذي ارتبط عمري المهني وقد انقضت منه أربعة عقود، من مشهد الإندلاق والتبجح وبيننا من تسلح بالأرقام وبالإحصائيات، ليقول أنه عصر الموت السريري للصحافة الورقية، وأن الجرائد الورقية في طريقها إلى الإنقراض.. كنت أطلق صوت المقاومة والرفض لهذا التشييع المبكر ولهذا التشنيع المدمر ولهذا التمييع المتنكر لرسالة سامية كانت تؤديها الصحافة الورقية، وأبدا لن ينافسها في أدائها بالحرفية والدقة أي شكل إعلامي مهما برع في خلق أساليب الجاذبية والتأثير على عقول وفكر ووجدان الناس.
لم أكن في استماتتي، ومعي كل من أفنوا سنوات من عمرهم في صناعة المحتوى الراقي للصحافة الورقية.. في الدفاع عن كينونة الصحافة الورقية.. وفي مقاومة كل المقالع التي استحدثت من أعداء الإعلام الملتزم والإحترافي لاقتلاع الصحافة الورقية من جدورها.. لم نكن نرفض ما ولد من إحداثيات تكنولوجيا الإعلام من وسائط وأنماط الإتصال، ولم نكن نكابر في أن تكون لهذه الوسائط بيوتات في مدينتنا الإعلامية من دون أن يجبرني أحد على دخولها، ولكنني وإلى اليوم ما زلت موقنا أن موت الصحافة الورقية بحمولاتها التاريخية وبتمثلاتها الفكرية وعلى الخصوص بتشبثها المطلق بفرائض الإعلام المصداقي، باطل من أباطيل العصر، وما يبرئ ساحتي، ويدل على أنني لا أعصي في تشبتي بالصحافة الورقية أمرا للحداثة وللتطور التكنولوجي، مشهدنا الإعلامي الوطني في زمن جائحة كوفيد 19.
كان ضروريا وبلادنا تخوض حربا شرسة وضارية ضد جائحة تهدد حياة الناس قبل اقتصادهم وخبزهم اليومي، أن يقف الإعلام الوطني عند الخط الأول للمواجهة إلى جانب جنود ورجال أمن الوطن، وإلى جانب الجيش الأبيض متمثلا في رجال ونساء الرحمة، الأطباء بكل تخصصاتهم، ومن هب من أول وهلة بلا مزايدة الصحافة الورقية ملبيا نداء الواجب، الصحافة المكتوبة التي دفنها البعض وهي حية ترزق، هذه الصحافة تسلحت بمرجعيتها وصدقيتها واحترافيتها لكي تسند ظهر أبناء الوطن، لتوعيهم، ولتحسسهم، ولتخرجهم من سراديب التمييع والإسفاف، ولتنور عقولهم، ولتمنع عنهم الهواء الخبيث، هواء الشائعات ومفسدات الذوق، الذي يأتي من صحافة تغذت من أول يوم على التشهير والتنكيل والتشنيع وأشاعت وسط الناس الكثير من المنكرات الإعلامية، وأكبر هذه المنكرات جعل التفاهة هي لغة العصر.
جاءت «كورونا» لتعلن بالفعل هزيمة صحافة «الكاميرا والعصا» كما أسماها زميلي الدكتور منصف اليازغي، التي تتعقب الناس إلى جحورهم الخاصة بل وتندس في حجرات نومهم لتنشر على حبل الصحافة الرخيصة خصوصياتهم بلا وجل ولا توبيخ ضمير.
جاءت «كورونا» لتعلن هزيمة صحافة التسطيح والرداءة المتنكرة في جلباب التبسيط، وقد أفسدت لغتنا الجميلة وقوضت صرح الأخلاقيات وأعلت صرح الميوعة، فلا عاد يرى في المشهد، لا عالم يبتكر، ولا مفكر يبدع، ولا مثقف يحمي الناس من متاريس الجهل، ولا صحافي يبني رأيا عاما يرفع عماد الوطن، كل هؤلاء ظن «صحفيو المقالع» أنهم كما الصحافة الورقية قد شيعوا إلى مثواهم الأخيرة، والحقيقة أنهم أزليون في وطن عماد نموذجه التنموي، يقوم على إرث إنساني عمره 15 قرنا.
لم تحتج الصحافة الورقية، بما جبلت عليه من قيم المواطنة، وبما تسلحت به من احترافية، وبما تجر وراءها من تاريخ عامر بالنضالات في مجالات التنوير، لم تحتج هذه الصحافة الورقية لمن يدفعها إلى الخط الأول للمواجهة، والبلاد في تعبئة شاملة من أجل دفع الخطر الداهم للجائحة، بل إنها انطلقت بوعيها وحسها لتلعب دورها المجتمعي والإنساني والوقائي والحمائي، بأن حولت نسخها الورقية إلى نسخ إلكترونية تصل إلى كل المغاربة في بيوتهم ليقرأوها بالمجان، وتلك تضحية كبيرة من صحافة ملتزمة، تشتغل وتعمل، وتخرج كل يوم بنسخها الإلكترونية حتى وقد توقفت عنها كل الحملات الإعلانية التي هي موردها الأكبر لإعالة من يعملون في مقاولاتها.
وعندما أطالع عدد المشاهدات اليومية لكل النسخ الإلكترونية للصحافة المكتوبة، ومنها جريدة «المنتخب»، وهي مشاهدات بالآلاف إن لم تكن قد وصلت للملايين، أحمد الله على أنني في تشبتي بالصحافة الورقية، لم تأخذني نوبة هذيان، ولم أكن كمن يطارد خيط دخان، وأن في كل الذي نرى ونشاهد أكبر برهان، على أن موت الصحافة الورقية كذبة لا يصدقها إنسان..
بهذه الصحافة الورقية تبنى وتعمر الأوطان..