غدا سيكون بكل تأكيد يوما آخر..
فعندما تنجح البشرية جمعاء في إزاحة «جائحة كوفيد 19» والتخلص من آثار العدوان الجرثومي، سنجلس جميعا لنتحاور بشأن هذا الغد الجديد، مؤسسا على ما عشناه لأيام من توجس وخوف وحزن على كارثية الحصيلة إن بشريا وإن اقتصاديا، بسبب ما زرعناه بأيدينا بالأمس القريب من معتقدات وتقليعات، وتبجح بأن الإنسان أحكم قبضته على الكثير من الأشياء ونجح في الرفع من مستويات الإستباق والحدس والتوقع..
غدا سنجلس لنحصي الخسائر البشرية والإقتصادية والقيمية، وكل من زاويته سيرتب الدروس المستفادة من هذا التحجر الإنساني الذي ما كان من ملاذ وما كان مأمن غيره لاتقاء شر فيروس خسيس لا يرى بالعين المجردة، وسيصفف كل منا الخلاصات الإنسانية لمرحلة تكاد تكون استثنائية في تاريخ البشرية، والإسثتناء هنا أن الجائحة التي أوصدت المجالات الجوية وأغلقت مصادر الحياة والبهجة، وأدخلت الناس في العالم كله إلى المعازل الصحية، وشلت الحركة الرياضية والإقتصادية، وفرملت الإنطلاقات الجنونية للفكر التجاري الموشوم بالشراهة، الإستثناء أن هذه الجائحة ضربت البشرية في زمن تصور فيه الإنسان أنه ملك مفاتيح الكون بفضل ما ينتجه يوميا من اكتشافات علمية.
بالتأكيد سيكون غدا يوما آخر، وقد أدرك الإنسان أنه نجح في ترويض الطبيعة وفي تحقيق ما بدا في زمن مضى، ضربا من ضروب المستحيل وفي صناعة الإعجاز في المبنى التكنولوجي لوسائل التواصل حتى أضحى العالم قرية صغيرة، نجح في هذه الأشياء وغيرها، ولم ينجح في جعل نفسه وجسده وصحته في مأمن من وباء لا يهم لا مصدره ولا جنسه، ولكن ما يهم أنه عرى عن وهم كبير، وهم أن الإنسان بكل هذه العظمة يظل عاجزا عن التخلص من فيروس شل كل المحركات الإقتصادية والإجتماعية وفرض على الإنسانية نمطا حياتيا، الحماية الأكيدة فيه هي دخول المآمن الصحية..
غدا سيكون بالتأكيد يوما آخر، نعيد فيها الهرم الإنساني إلى وضعه الطبيعي، لتكون قاعدته الصلبة ليست هي الإقتصاد ولكن هي القيم، القيم التي تصنع الإنسان وتجعله يبرع في الإقتصاد وفي العلم وفي الإنتاج الفكري وتحذره من تجاوز الخطوط الحمراء، بل وتحذره من مغبة أن يتهاون في أمور صحته.
سيدرك الإنسان أن الصحة لابد وأن تكون أولوية الأوليات وأن لا يتقاسمها في الأهمية عند بناء المقاربات الجديدة للحكامة شيء آخر، فما الفائدة من إنسان سلم عقله ولم يسلم بدنه، وما قيمة أن يحقق الإنسان الثروة وهو معتل الجسد وواهن الصحة برغم أبراجه وتشييداته وحصونه الفارهة فإنه يقف على جرف هار، ما جدوى أن نصنع سعادة مزيفة ونحن تعساء بأمراضنا وأسقامنا الجسدية وعللنا المجتمعية، وما فائدة أن نصعد للقمر ونحن عاجزون حتى الآن عن صناعة لقاح يدفع عنا خطر المواجهة المباشرة لوباء كورونا ويواري عنا عجزنا الفاضح..
إن غدا سيكون بالتأكيد يوم آخر، تتبدل فيه الصور والقناعات والمعتقدات، ويتذكر الإنسان إنسانيته وأنى له الذكرى..