كانت ساعتنا البيولوجية تعطينا هوية للغد وللآتي.. وترسم لنا جغرافيا الأمد القصير.. ونسافر لتونا خارج قوقعاتنا الذاتية.. متحررين من أي ضغط أو خوف أو هوس.. لنفك خيوط ذاك الآتي متسربلا في حلله الإفتراضية..
كانت لنا قدرة على أن نخمن كيف يكون الغد، فبرغم المواجع وبرغم ما تبصره العين من ألوان المعاناة، إلا أنه كان بمقدورنا أن نسافر إلى ذاك الغد القريب، بلا حاجة لتأشيرة تبيح السفر في زمن الحجر والحظر والهدر لطاقة الحرية التي إن لم تتنفس من شعابنا، تحولت إلى كثلة هادمة للضلوع خانقة للأنفاس..
أما اليوم في ظل الكوابح والموانع والمحظورات، فلا نرى للغد شكلا واضحا ولا لونا براقا.. قد يكون مجهولا كبيرا منه ستنحت تضاريس الزمن الآتي.. ولكنه عسير على الفهم.. فهل يا ترى سنقدر على ركوب صهوته؟
قلت سلفا، أن غدًا سيكون يوما آخر، فما أدخلتنا إليه جائحة "كوفيد 19" من كهوف ومعازل، فرضت علينا كصحفيين أن نخرج من جحورنا القديمة، من قاعات التحرير ومنصات النقاش، ومن التقابلات والتناظرات التحريرية والإستيهامات الجماعية، إلى فضاءات افتراضية يرتبط فيها الصحفيون فيما بينهم بروابط عنكبوتية، فتنقل الحواسيب المشاعر والتقاسيم لتحولها إلى جلمود صخر يقف في ربوة عالية.
غدنا سيكون مختلفا بكل تأكيد، فما سحبتنا إليه الجائحة من عوالم كنا من قبل نتثاءب أو نعاند ونكابر من أجل الدخول إليها، ستحفر بحوافرها القوية في مرسمنا الصحفي، لتترك على ملامح الإشتغال الصحفي الكثير من النتوءات التي يصعب التخلص منها.
بارعون كنا كإعلام رياضي في التحايل على السكون وعلى الجمود، فما أحالنا التوقف الكامل للمباريات الرياضية على التقاعد المؤقت بكل مشاكساته وترهيباته، ولعلها واحدة من النعم المتخفية وراء نقم الجائحة، أننا حفرنا بالأظافر في صخر الصمت والسكون، لنفجر ينبوعا صحفيا نقول به لمن ظن أننا متنا بأننا أحياء نرزق..
صامدون كنا كإعلام أمام كل الأعاصير التي ضربت المشهد الصحفي الوطني، وقد علقت نسخنا الورقية، وبتنا نسخا إلكترونية تتنقل بين الحواسيب والهواتف الذكية والمنصات التفاعلية، فقد كان لزاما أن نخوض معركة من أجل البقاء.. معركة كنا نتوجس منها، أو خوفا من التصدع والإفرام، كنا نؤجلها ليوم ما كنا لنعرف له ملامح، وجاء ذاك اليوم المهرب من ذاكرتنا، وعرضنا بأسمالنا الصحفية العتيقة على مشهد صحفي كما تريده التكنولوجيا الحديثة ووسائط الإتصال، مملوءا بالضجيج وباحتدام الصراع بين لغتين وبين فكرين وبين ثقافتين وبين صحافتين أو جائحتين..
غدا عندما نخرج من جحورنا أو معازلنا، سندرك أننا مشينا مسافات طويلة في ممشى التغيير، ولعلنا أدركنا أن الكثير من قواعد العمل الصحافي ستتغير، فلا يمكن أن يكون هذا الذي تطبعنا به في زمن الجائحة مجرد أحلام كرى أو مجرد تمرين لا يعتد به، بالمشي بثبات فى مشاهد إعلامية جديدة ومختلفة.. 
غدا سنعود لمقرات عملنا ولمكاتبنا ولملاعبنا التحريرية، ولكن ستكون هناك بلا شك مباراة صحفية بطقوس جديدة، يريد فيها الورقي أن ينتصر ولا يندثر، ويبسط الإلكتروني هيبته فلا ينشطر وعن قواعد الإعلام الرصين لا ينكسر، وتتماهى المنصات التفاعلية وما إلى ذلك من وسائط الإتصال من دون أن تحمل حرية التعبير ما لا تحتمل..
غدا ستعود لنا بهجة الحياة في مستودعاتنا الصحفية، وقد تغيرت لدينا العادات والطقوس وتقنيات العمل الصحفي، ليس خضوعا بالإكراه لأحكام التطور، ولكن استئناسا به وتزودا بطاقته الإيجابية..
غدا سنخرج إلى الزمن الإعلامي الجديد، مسلحين بما أعطتنا إياه الجائحة من عناصر المقاومة ضد التصحر والتكلس والإنكماش، زمن لا مكان فيه لمن يعادي التكنولوجيا أو روابط التواصل الإجتماعي بمختلف أجناسها.. زمن لا مكان فيه لما يلجم الرأي أو يكمم الأفواه.. زمن كل الأمكنة فيه تطلق العنان للفكر لكي يبدع في النقد والبناء لصناعة التغيير، في أجمل وطن..