كنا نظن أن من المستحيل أن تعود الكرة إلى الدوران، بفعل هذا الذي فرضته جائحة «كورونا» من أحكام قاسية لم تقبل لا إبراما ولا نقضا، كان منها أن نهرع جميعا إلى مخابئنا الصحية، ونتلحف بأغطية الوقاية حتى لا يتفشى بيننا الوباء فلا نجد قدرة على مجابهته، وكان منها أيضا أن أسدل الستار على الملاعب وأصيبت كرة القدم إسوة بكل الرياضات بالشلل، فلا حركة ولا نبض حياة.. لا شيء غير صمت القبور.. 
وبين كل أحاديث القطع والجزم باستحالة الرجوع، وأحاديث الرجاء بوجود خيط أمل رفيع لكسر القيود، كان لزاما أن يتحرك أحدنا لالتقاط إشارة الأمل، فكانت «البوندسليغا» هي المبادرة، طبعا بعد أن حصلت من الحكومة الألمانية على الضوء الأخضر ليشرع اللاعبون في تداريبهم الفردية فالجماعية، ومن تم ليعلن بشكل رسمي عن عودة الحياة لكرة القدم وللملاعب.
بالقطع لم تكن لا الحكومة الألمانية ولا «البوندسليغا» نفسها كمؤسسة وصية على واحدة من أكبر البطولات في العالم، لتنفردا بتفعيل الرجوع إلى الملاعب، لو لم تتأكدا من أن هذا الرجوع المبرمج، لا ينطوي على مخاطر وبأن جبل الإحتياطات والتدابير الوقائية والإحترازية سيكون بمثابة حائط صد عملاق لا يسمح أبدا للفيروس الخسيس أن يتسلل ليفسد فرحة العناق، وبدا هذا الأمر واضحا جدا ونحن نتابع إطلاق شراراة التحدي يوم السبت الماضي، إذ أن «البوندسليغا» المؤسسة طبعا، جهزت بالعودة للسلطات المختصة بمكافحة وباء كوفيد 19، برتوكولا صارما مكن الأندية من التنقل إلى مدن غير مدنها لتلعب مع منافسيها، وأوجد لها النظام الحمائي الصارم في الإقامة وفي الحضور للملعب وفي خوض المباريات، وكل هذا بتعقيم كل محيط الملعب بمرافقه ومساراته، عمل ضخم بالفعل، مهما كلف من جهد ومهما استنزف من حرص ومهما رسم على الوجوه من توجس، فإنه في النهاية إنتصر لما كنا جميعا نحلم به، هو أن نشاهد أخيرا مباراة لكرة القدم لا هي افتراضية ولا هي مأخوذة من الزمن القديم، صحيح أنها بدت وكأنها مباراة من العصر الحجري، حيث فرغت المدرجات من شغبها واحتفالياتها، وحيث صودرت فرحة الإحتفال الجماعي بالأهداف، إلا أنها في النهاية تبقى مباراة حية لا شيء فيها مصطنع..
طبعا دونا عن كل مباريات الإنبعاث بألمانيا، شدتنا مباراة بروسيا دورتموند وشالك، وعدا أنها مباراة ديربي بين «أجوار الرور»، فقد كانت مواجهة مباشرة بين أسدين مغربيين، أشرف حكيمي وأمين حارث، وعلى الفور يجب أن نعترف بأنها كانت مباراة من جانب واحد، حضر فيها «أسود الفيستفال» بكل توابلهم الجماعية برغم أن الجمل التكتيكية الجميلة كانت تولد قيصريا من رحم المعاناة، وغاب تماما الملكي الازرق، إلى الدرجة التي خيل لي أن لاعبيه خرجوا لتوهم من جحورهم الصحية، وأتوا على مباراة بقيمة عالية من دون أن يتحضروا لها من دون زاد بدني ومن دون متاع تكتيكي وحتى من دون تحضير ذهني.
وعدا عن كل الصور الغريبة التي كنا نشاهدها لكرة قدم تقاتل من أجل تحقيق الإنتصار على فيروس «كورونا»، فإن ما كشفت عنه مباراة دورتموند وشالك وغيرها من مباريات الدورة 26 ل«البوندسليغا»، هو أن المباريات بدت فاقدة للإيقاع السريع، وهو أمر ينسب للتوقف الطويل الذي كان بالفعل استثنائيا في مسار لاعبي كرة القدم، وينسب أيضا للهواجس الضاغطة والتي تفرغ مشهد المباريات من طقوسه الإعتيادية، وينسب ثالثا للغياب المؤثر للجمهور، وإذا ما عرفنا أن مباريات البطولة الألمانية هي الأكثر جاذبية للجماهير، ندرك فعلا كم كان صعبا على اللاعبين أن يلعبوا في مكان ترقص فيه الأشباح وتنتشر فيه رائحة الموت..
عموما إنتصرت «البوندسليغا» على التوجس والخوف والإرتعاب، ولعلها دلت غيرها من البطولات على أن الطريق يمكن أن يكون سالكا للملاعب، ولكن شريطة أن يكون الآخرون بنفس عقلية الألمان في جديتهم وانضباطهم وعلمية كل القرارات الكبيرة والصعبة التي يتخذونها، عقلية انتصارية لا تعرف شيئا إسمه المستحيل..