ما أخذني يوما الشك، في أن الأندية الأوروبية الكبيرة والتي نراها مهيمنة على سوق الإنتقالات، لا يرتفع صوت على صوتها، ولا سهم يتطاول أمام أسهمها، حتى إن جاء «فيربلاي» المالي ليوقف هذياناتها، تؤسس حكامتها على دعامات كثيرة أهمها على الإطلاق دعامة التكوين، فهذه الأندية مهما أنفقت على الطيور التي تصطادها من أندية أخرى بقيم مالية خرافية، إلا أنها لا تتوقف عن التصنيع وعن الإنتاج داخل أكاديمياتها المستوفية لشرط التكوين الرياضي والعلمي الذي يتطابق مع مستويات كرة القدم العالية، وهي ترصد لذلك موازنات مالية ضخمة طمعا في الحصول على جودة عالية في المنتج الكروي.
إلا أن المثير هو ما بات معروضا في السوق الأوروبية من لاعبين بأعمار صغيرة جدا، يلفتون إليهم الأنظار بخاماتهم الفنية وبدرجات الإنضباط العالية التي تفوق كثيرا أعمارهم، حتى أن الواحد بيننا يسأل على التو، وهو يرى لاعبا مثل أنسو فاتي برعم برشلونة الذي ارتدى قميص لاروخا في مباراته أمام أوكرانيا برسم عصبة أمم أوروبا، وخلال تلك المباراة أصبح أصغر لاعب يوقع هدفا دوليا، إذ اهتدى لمرمى الأوكرانيين وهو لم ينه بعد ربيعه السابع عشر، ويقف على دخول الشاب إدواردو كامافينغا، لعرين الديكة في مباراة كرواتيا، ليصبح ثالث أصغر لاعب في تاريخ الديكة، كيف تأتى لهذين الشبلين على غرار العشرات أمثالهم، الوقوف على قمة الهرم الكروي في سن مبكرة وغيرهم أنفق عشر سنوات لكي يبلغوا هذا المستوى.
إن أنا سألت وإن أنتم سألتم أيضا عن سر هذا الشموخ المبكر للاعبين في أعمار الزهور، فسيأتيكم الجواب الذي يشفي الغليل ويبطل كل عجب مما تراه العين، من وثيقة مرت علينا ولربما قرأناها على عجل ولم نقف على رسائلها الكثيرة..
قبل أيام كشف الإتحاد الأوروبي لكرة القدم، عن أن أندية البطولات الخمسة الكبرى في القارة العجوز، تستثمر في تطوير اللاعبين الشباب، ما مجموعه مليار دولار في السنة التي نحن بصددها، وأن الأندية الأنجليزية هي المتصدرة لهذا الإنفاق السخي والمعقلن بل والمبرر على مشاتل التكوين، ذلك أن متوسط ما ينفقه كل فريق من البطولة الإنجليزية الممتازة على تكوين المواهب هو 6.1 مليون أورو.
بعد الأندية الأنجليزية تأتي أندية البوندسليغا التي يستثمر كل فريق فيها على برنامج تكوين الناشئين ما يعادل 5.3 مليون أورو، فالأندية الفرنسية التي تنفق كل منها 4.7 مليون أورو، وتأتي الأندية الإسبانية رابعة في التصنيف، إذ تقدر موازنة كل فريق لتأهيل الشباب ب4.6 مليون أورو، ولأن أندية الدوريات الخمسة الكبرى هي صورة من القارة الأوروبية التي لا تساوم أبدا في صناعة الجودة ولا تتنازل عن مبدإ أساسي في صناعة الإنجاز، وهو أن التكوين يكاد يكون رافعة بأولوية مطلقة، والدليل على ذلك أن الإتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) أنفق أكثر من مليار أورو على تطوير اللاعبين الشبان الذين انتقلوا بحسب ذات الإحصائية إلى 1629 فريقا، كما أن معدل الإنفاق السنوي على برامج التكوين زاد ثلاث مرات خلال العقد الأخير، حيث ارتفع من 43 مليون أورو في موسم 2008ــ2009 ليصل إلى 139 مليون أورو في موسم 2018ـ2019.
لا أريد أن أجني عليكم وعلى نفسي بعقد المقارنات، التي يقال تحت وطأة العجز أنها لا تستقيم لوجود الفارق، إلا أنني مصر على التنبيه لخيار لا محيد عنه لركوب قطار كرة القدم الحديثة، هو خيار التكوين ببعده الجديد الذي لا يشبه في مختلف حلقاته التكوين النمطي أو التقليدي الذي ساد أزمنة كثيرة كرة القدم المغربية، وتضاءل مفعوله لوجود متغيرات تقنية كثيرة، فهذا التكوين الذي يفوق من حيث الأهمية تحويل الأندية إلى شركات رياضية واستقطاب رؤوس أموال لرفع سقف الإستثمار، يحتاج أولا إلى سيولة مالية ويحتاج ثانيا إلى بنيات تحتية ويحتاج ثالثا إلى نخبة مكونة يجري انتقاؤها بشكل علمي، وهذه الأضلاع الثلاثة ينذر أن تجتمع داخل أنديتنا في الوقت الراهن، فإن حضرت الإرادة غاب المال، وإن حضر المال غابت الإرادة وغاب الرجال وغابت الكفاءات، والدليل على ذلك أنه بعد عشر سنوات كاملة قضتها كرة القدم المغربية في العمل داخل ورش الإحتراف، لم تنجح في تعميم الأكاديميات على كل الأندية المحترفة، برغم أن من أهم بنود دفتر تحملات الإحتراف أن يكون للنادي مركز للتكوين.
أعرف ما تعانيه الجامعة مع الأندية لدفعها إلى إحداث أكاديميات من مستويات متوسطة، وأعرف كم تغري الجامعة الأندية بالمنح لمساعدتها على ذلك، إلا أن الوجه الإستثماري والتسويقي والإقتصادي لكرة القدم يرتبط ارتباطا وثيقا بسياسة التكوين، لذا وجب أن يصبح التكوين فرض عين، لأن غير ذلك هو لعب هواة..