لا يرضينا هذا الذي شاهدناه من الغريمين الوداد والرجاء في "ديربيهما" الثامن والعشرين بعد المائة، لا شيء على الإطلاق يقول العكس.. فالفريقان معا بديا وكأنهما يسيران على خيط رفيع وغايتهما أن يصل كل منهما إلى خط النهاية، مخافة حدوث أي خلل تكون نتيجته السقوط في الهوة السحيقة، فتتكسر العظام وتصبح مجرد أشلاء..
شخصيا توقعت أن يأتي الديربي شاحبا وشحيحا وبقدر صغير جدا من المجازفة تقنيا وتكتيكيا، ليس لأن الغريمين لا يملكان بشريا وتكتيكيا ما يرفعهما درجات فوق الشح الإبداعي، وما يبعدهما عن تصدير صور شاحبة كالتي صدراها لنا جميعا، ولكن لأن ما كان على ساحة العرض، مباراة ملغومة، لا توقيتها ولا ما تداعى على هوامشها من أحداث، ولا ما يوجد عليه الفريقان وهما على بعد خطوات من نهاية المسير، كانا يسمحان بهامش كبير من المخاطرة.
صحيح أن غاموندي والسلامي وكل اللاعبين كانوا يتمنون الحصول على النقاط الثلاث، ولكن لا أحد إطلاقا كان على استعداد لأن يرفع القيود ويسقط الستائر الحديدية ويفتح اللعب، كان الرجاء المتصدر يتمنى الفوز ليبتعد عن الوداد بأربع نقاط، ولكنه لعب الديربي بقدر عال من الإحتياط والإجتراز، فأفضل شيء بعد الفوز الذي يحمل في جوفه مخاطر كثيرة، هو أن تنتهي المباراة متعادلة، لأن الخسارة كانت تعني فقدان الصدارة، وكان الوداد يتمنى في قرارة نفسه أن يسرق المباراة، أن يحقق الفوز الذي يرفعه مجددا للصدارة ويتقدم به بنقطتين على الرجاء، ولكنه إزاء التخويف الذي يمارسه الديربي، وتحت رهبة السقوط في مغبة الخسارة التي ستجعل الفريق مبتعدا عن غريمه بأربع نقاط، فإنه اختار بمحض الإرادة واتقاء لشر المحدثات التكتيكية، أن يترك المباراة تهرول نحو التعادل، فالنقطة لا تغير من الحال شيئا.
كثيرا ما قلت أن الديربي لحظة مستثناة في مشهد البطولة، هو مباراة لا تأخذ بالمقاسات التكتيكية لأي من الفريقين، لا تكترث لا بمحصلاتهما ولا بدرجة الجسارة والإكتمال الفني الذي بلغه كل منهما، لذلك من رشح الرجاء للفوز عطفا على المستويات الجيدة التي يقدمها واستنادا لقاعدة الإختيارات البشرية التي يملكها مدربه جمال السلامي، فقد شاهد من الديربي ما أصابه بالصدمة، فالرجاء والوداد لعبا بأسوإ ما في رصيدهما، بالكم الرهيب من الخوف الذي يقفل أبواب الإبداع ويغيب جوانب الخلق ويجعل المهارة جسدا لا ينطق.
ومن يتصورأن الديربي بما انتهى إليه رقميا قد وضع محددا واحدا لما سيكون عليه الصراع الضاري في الجولات الخمس المتبقية، فهو خاطئ، لأن الديربي بما شاهدناه جميعا كان أشبه بالعبء الذي سعى الوداد والرجاء للتخلص منه، لقد كان في النهاية شرا لابد منه، وأتصور أن مكونات الوداد والرجاء قد وضعوا من على الأكتاف حملا كبيرا، وما سيكون غدا سفر أحادي لكل فريق بحثا عن النقاط التي ستقود للقب، ولو أن الرابح الأكبر في الديربي كان هو النهضة البركانية الذي يجد في التعادل ما يحفظ له آماله في مشاركة الرجاء والوداد السباق المثير نحو اللقب، كيف لا وقد وضعه فوزه في مؤجله الأخير على الجيش الملكي على بعد نقطتين من الرجاء وعلى بعد نقطة من الوداد، وفي الأفق القريب تلوح قمة الموسم، حيث يحل فارس البرتقال برسم الدورة 28 ضيفا على الرجاء البيضاوي.
وبمعزل عن الديربي البئيس في مبناه، حيث ساد صمت القبور المدرجات وفي مثل هذه القمم نعيش احتفاليات رائعة هي ما تصنف الديربي بين أفضل عشرة ديربيات في العالم، وفي عمقه حيث هبت رياح جافة وغمامات لا تمطر، فإن الرجاء المتحصن بكوماندو بشري رائع بات يعرف ما هو منتظر منه في المباريات الخمس المتبقية، فالفوز بها جميعا يصعد بها لأعلى درج في البوديوم ليمنحه اللقب الذي غاب عنه طويلا، كما أن الوداد البيضاوي يعرف انه سيضرب في اتجاهين، اتجاه اول أن لا يضيع أي نقطة، واتجاه ثان أن ينتظر إضاعة الرجاء لنقطتين، وبين الإثنين يقف نهضة بركان على نفس المسافة، فرغم أنه يقف على بعد نقطتين من الرجاء، إلا أنه سيفلح في الحصول على لقب البطولة الأول في تاريخه، في حال ما إذا فاز بمبارياته الخمس المتبقية، لأن بينهما توجد مباراة مع الرجاء.
في النهاية وكما قال الشاعر لسان الدين الخطيب متأسيا على زمن الوصال مع الأندلس، "لم يكن الديربي إلا حلما.. في الكرى أو خلسة المختلس".. فلنجرب أن نحلم بشيء تراه العين حقيقة لا أضغاثا..