أحزنني كما أحزن من هم من أبناء جيلي ومن سبقوني إلى مشاهدة الفريق الوطني في منتصف خمسينيات القرن الماضي، في المرحلة التي أعقبت استقلال البلاد، رحيل واحد من رموز كرة القدم الوطنية، السي العربي شيشا الذي يستحق أن يحمل لقب أسد ثلاثي الأبعاد..
غادرنا الرجل إلى دار البقاء مع إطلالة العام الجديد، بعد سنوات قضاها في صراع مرير مع المرض، مرارة المرض أنه حجب عن الراحل العربي شيشا ضوء وبهجة كرة القدم، وقطع عنه هواء كان يتنفسه ملء الرئتين، هواء كرة القدم بطبيعة الحال، والحقيقة أن السي العربي وهكذا كنا نناديه قيد حياته، مثل لكرة القدم الوطنية في حقب ذهبية شجرة وارفة الظلال بل وغنية الثمار، ولو أن ما ستطلعون عليه، سيصيبكم بالدهشة وأنتم تقرؤون ما سيلي هذه الأسطر، لا لشيء إلا لأن ذاكرتنا الرياضية لغاية الأسف قاصرة عن أن تستوعب مئات الرموز والأساطير وصناع الإحتفالية في مراتعنا الكروية.
لا أذكر أنني شاهدت السي العربي شيشا يلعب، فقد كان له شرف ارتداء القميص الوطني في بداياته في أعقاب استقلال الوطن، حيث تدرب تحت إمرة الأسطورة العربي بنبارك وأسطورة التدريب قاسم قاسيمي، وهو الذي نشأ بمدينة الدار البيضاء ونهل من معين إبداعها ولعب لكل من اليسام والراسينغ البيضاويين، قبل أن يبدأ مشوراه الإحترافي بفرنسا والذي قاده للعب باقتدار لأندية أولمبيك مارسيليا وستراسبورغ وريد سطار، إلا أن ما سمعته مرويا عنه، يقول بأنه كان جناحا سريعا ومهاريا، وهو صناعة مغربية خالصة، إذ انتمى لجيل من العباقرة حولتهم سلطة الحماية الفرنسية للعب في صفوف أنديتها المحترفة.
ما أذكره جيدا، وأنا في مستهل مسيري الصحفي، أنني تعرفت على السي العربي شيشا مدربا، فقد أنهى مسيرته الإحترافية بفرنسا في سبعينيات القرن الماضي، وعاد بمحصول تقني أهله كما هو حال عدد من الأسود الذين خبروا أسرار الإحتراف الأوروبي، الفرنسي تحديدا، لأن يمتهن التدريب، وكان العربي شيشا ممن حملوا في وعائهم منظومة تكتيكية جديدة، تتأسس على جماعية الأداء وبالخصوص على اللياقة البدنية العالية، وكان مثيرا للإنتباه وأنا شاب في مقتبل عمر التحصيل الرياضي، أن أتابع العربي شيشا في الحصص التدريبية التي أشرف عليها وهو مدرب للجمعية السلاوية، وهو ينزل أسلوبا جديدا في صناعة اللعب الجماعي معتمدا في ذلك على مهارة عالية لواحد من الأجيال الذهبية التي مرت على الجمعية السلاوية.. بتقنية واحد إثنين وبالضغط العالي نجح العربي شيشا في أن يصبح علامة فارقة في منظومة اللعب الوطنية، وللأمانة فقد أهدى من خلال جمعية سلا الفريق الذي كان له رباط وثيق معه، أسلوبا فرجويا جذابا، كان سيحمل فارس الرقراق لأن يكون على غرار غيره من الأندية فريق ألقاب، لولا أن قلة ذات اليد عطلت ذاك السحر الكروي المتدفق من نهر أبي رقراق.
إلا أن ما سيزيد ارتباطي بالسي العربي شيشا، هو الجانب الذي برز فيما بعد في شخصيته، الجانب الثقافي والفكري، فقد كان الراحل بنهم كبير للقراءة والكتابة، لم يكن ليضيع عددا من أعداد مجلة «فرانس فوتبول» وقد كان عاشقا لفيلسوفها ورئيس تحريرها الأنطولوجي، جاك فيران، وطبعا ستتعدد لقاءاتي بالسي العربي شيشا، عندما كان يأتي محملا بأوراقه التقنية لينشرها على أعمدة جريدة «المغرب» التي كانت تصدر باللغة الفرنسية بلسان حزب «التجمع الوطني للأحرار» إلى جوار صنوتها «الميثاق الوطني» التي كانت منطلقي في مساري الإعلامي.
كان العربي شيشا شغوفا بأن ينسخ على الورق كل ما تشاهده عينه وكل ما يحلله عقله المقارن، وللأمانة فقد دشن عهدا جديدا للتحاليل التقنية المعمقة التي لا يتقنها في العادة إلا الخبراء، وكم من مرة رفع سقف التحليل عاليا، ليستبق وليستقرئ وليصدر حكما في ناخب وطني، وكم من مرة أعطته الأيام الحق في ما كان موفقا في رصده بشكل استباقي.
لا أعتقد أن السي العربي شيشا الذي ودعنا في عمر السادسة والثمانين، قد أخذ حقه كاملا من التكريم ومن الإشادة بكل مستوياتهما، بل على العكس من ذلك، فقد مات الأسطورة وفي قلبه غصة، من أنه انتهى غريبا وسط عائلته الرياضية، من دون التنقيص أبدا من المبادرة الرائعة التي أقدم عليها نخبة من اللاعبين الذين تتلمذوا على يديه بالجمعية السلاوية، والإلتفاتة التي خصته بها مؤسسة محمد السادس للأبطال الرياضيين، القصد أنه برحيل العربي شيشا الرجل الثلاثي الأبعاد، تكون خزانة رياضية قد احترقت، ولم يبق منها إلى ما هو منطوق شفهيا.. وما على الشفاه يتناثر في الهواء..
رحم الله العربي شيشا.