وضع اليورو نفسه، بل ووضع كرة القدم معه أمام امتحان عسير لقياس قوة الدفع العاطفية التي يتمتع بها وتتمتع بها كرة القدم في توحيد العالم بمختلف أجناسه وثقافاته وعوائده تحت مظلة واحدة.
لم يكن على اليورو كأرفع وأرقى وأجمل مسابقة رياضية كونية بعد كأس العالم والألعاب الأولمبية، أن يثبت مدى قدرة كرة القدم على مقاومة جائحة كوفيد 19، والتأكيد على أن الإنسانية لا يمكنها أن تخضع طويلا لأحكام قهرية تسلب منها إرادة الحياة، باستعادة الملاعب لبريقها وأيضا بإعادة الجماهير للمدرجات لإنهاء الهجر المفروض والسكون المطبق الذي خيم على مسارح العرض، ولم يكن على اليورو أن يثبت نفسه في مشيه على حقل من الألغام، ولكن كان عليه أن يتعامل مع حادث رهيب وضعه على حافة مأساة كبيرة.
كانت مباراة الدنمارك وفنلندا تعد بتجاذب كروي جليدي بين بلدين من شمال القارة العجوز، وكنا بالدقائق الأولى لتلك المباراة مستمتعون، ومنتخب الدنمارك يحاول حفر خنادق للوصول إلى مرمى فنلندا المتمنع، عندما فاجأنا لاعب منتخب الدنمارك كريستيان إريكسن، وهو يتهاوى بالقرب من خط إلتماس من دون أي اصطدام بأي من لاعبي المنتخب الفنلندي، ليسارع أقرب زميل إلى إبقائه على وضعه الجانبي ومحاولة إعادة لسانه لوضعه الطبيعي، قبل أن يتدخل على عجل الفريق الطبي لإسعاف اللاعب الذي تعرض لأزمة قلبية حادة، كانت تقوده رأسا إلى الموت الفجائي مع توقف القلب عن الخفقان.
ما سيحدث بعد ذلك، أن العالم كله سيدخل في حالة من الهلع، وسنضع جميعا أيدينا على قلوبنا لأن اللاعب الذي جرى نقله للمستشفى مغشيا عليه كان فاقدا للوعي، بل وأعطانا الإحساس أن إيركسن فارق الحياة، ليحيلنا هذا الذي حدث على صور مأساوية عشناها نحن بوفاة عدد من اللاعبين في مشاهد مماثلة، من المرحوم عادل التكرادي مرورا بالمرحوم يوسف بلخوجة والمرحوم جواد أقدار وصولا إلى المرحوم رضا الساقي لاعب نجم الشباب، آخر ضحايا الملاعب الوطنية، ومع اشتداد الحزن عليها، نادينا بتشديد المراقبة الطبية لحماية اللاعبين والرياضيين بشكل عام من مخاطر الموت الفجائي.
ما سيعقب الحادث المأساوي وإيركسن يحمل مسيجا بزملائه اللاعبين على نقالة نحو المستشفى، صور متداخلة ومتنوعة من مشهد حزين ولكنه أبرز القيم الرائعة التي تصدرها كرة القدم، من خلال تلاحم كل المكونات، وبخاصة العناق الكبير للاعبي ومناصري المنتخبين معا، وما أعقب ذلك من قرارات، بتوقيف المباراة بقرار من الإتحاد الأوربي لكرة القدم، ثم باستئنافها بعد أن تأكد للكل أن الألطاف الإلهية والتدخل الطبي السريع أنقذتا كريستيان إيركسن من موت محقق.
ومع تنهد الجماهير وخروجها من الحزن الشديد والويفا يزف لحظات بعد وصول إيركسن للمستشفى، بشرى جميلة بأنه استعاد وعيه وفتح عينيه، ستنطلق رسائل التعاطف عبر وسائل التواصل الإجتماعي، من النجوم والأندية مع إيركسن، وستحتفل جماهير المنتخبين باستئناف المباراة والتي يستحق عليها لاعبو الديناميث الدنماركي التحية، لأنهم قبلوا استئناف المباراة وهم تحت تأثير صدمة عاطفية قوية جدا.
غير هذا لابد وأن نقف عند الكفاءة العالية التي أبداها الفريق الطبي لمواجهة الأزمة، وعلى الخصوص عند التجهيزات والمعدات الطبية المتطورة التي جرى رصدها من أجل مواجهة هكذا طوارئ، والتي هي نتاج تطور تكنولوجي في تصنيع أجهزة الإسعاف، ولكنها أيضا نتاج بحوث علمية عميقة أنجزها الطب الرياضي لمواجهة الموت الفجائي الذي خطف العديد من الرياضيين.
وإلى اليوم أذكر مؤتمرا على درجة كبيرة من الأهمية دعت إليه قبل سنتين اللجنة الطبية للجمعية الرياضية للقوات المسلحة الملكية في محور «قلب رياضي عالي الأداء»، خلصت إلى التحديات التي يواجهها الطب الرياضي لعلاج اعتلال عضلة القلب الضخامي لقلب الرياضي والمخاطر المحدقة باللاعبين في الملاعب، وبخاصة ما يتسبب منها بالموت الفجائي، لذلك يستنفرنا جميعا هذا الذي وقفنا عليه عند حادث زميل أشرف حكيمي في إنتر ميلانو الدنماركي كريستيان إيركسن، لنؤكد على ضرورة رفع سقف الإحتياط والوقاية في ملاعبنا، وعلى الخصوص الإجتهاد في معرفة مسببات مثل هذه الأزمات القلبية، وهو ما سيعكف عليه الفريق الطبي الدنماركي والطب الرياضي بشكل عام لجرد مسببات الحادث في ظل ما يرصد من وسائل عالية الجودة طبيا لفحص ومراقبة قلب الرياضيين.