المصائب لا تأتي فرادى كما يقولون

فلم يكن كافيا أن يصدر قرار النفي والإغتراب في حق ديربي الدار البيضاء في نسخته 122، ولم يكن كافيا أن تمنع الزيارة عنه بسبب ما كان من أعمال عنف وشغب محرض عليها من أعداء الفرجة، لتنضاف إلى المواجع نقط الزيت التي رمى بها بودريقة على الماء الساخن فأشعلت البيت نارا أنتجت حرائق لم يتم إلى اليوم احتواؤها ولا إطفاؤها.
كنا كإعلاميين إسوة بالجماهير المبدعة والمتفننة في تصدير صور الحب والإنتماء الخالصين والمتبرءين من كل صور الشغب والعنف، أسعد ما نكون بلقاء الديربي، فبينما نمضي معشر الصحفيين إلى الخزانات وإلى كتب التاريخ لنستطلع سيرة الإبداع في هذا الديربي العالمي علنا نطلع منها بأرقام تصور قيمة السحر والجمال في صراع القطبين، كانت الجماهير تجلس لأيام عاكفة في غرفها السرية تحضر بكل متعة ولهفة لسيمفونيات كاليغرافية تبهر بها القوم، اليوم هناك وشاح من الحزن ومواويل من الرثاء وكتل من الزفرات تنطلق ساخنة من الصدور، لأن الديربي محكوم بحكم لا يقبل النقض، أن ينفى بعيدا عن الدار البيضاء وأن يلعب وسط صمت القبور وأن يرمى على حواشيه بتهم خطيرة تزيد من التشنج والإحتقان.
قدر لي أن أتابع الحلقة الأخيرة من برنامج «لماتش» على «قناة ميدي1 تي في» مشاهدا لا مشاركا، وأنبأني حدسي والزميل جلال بوزرارة يخبر بمداخلة هاتفية لمحمد بودريقة ستعقب الحوار مع الإطار الوطني هشام الدكيك مدرب أسود القاعة المتوجين أبطالا لإفريقيا، بأن رجة قوية ستحدث، لم أعرف لها طبيعة، وكيف لي أن أعرف وما أنبأني ما شاهدت من البطولة شيئا يمكن أن يكون ذريعة لكي يطلب بودريقة تدخلا أثيريا في برنامج يحقق ذروة المشاهدة في ذاك الوقت.
كانت مداخلة بودريقة بلغة الحرب قنابل عنقودية وجهها للجامعة أولا وللعصبة الإحترافية ثانيا ولرئيس الوداد البيضاوي سعيد الناصري ثالثا، واختار كما يفعل جالبو الإثارة وحتى الشفقة الوقت في ظل هذا القصف الخطير، ليقول أنه مستقيل وزاهد في منصب نائب رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، فلا عاش منصب يصلب الإرادة ويحول دون الذود عن حمى الرجاء، هكذا على الأقل صور لنا بودريقة الأمر وهو يختار الكلمات أكثرها لهبا وطنينا ليوصل الرسالة.
وحتى نفكك بشكل موضوعي هذا الخطاب التظلمي الذي يفجر بالعبارات الناسفة، سنقف على مصدرين لغضبة بودريقة التي أوحت بتلك الخرجة الإعلامية بما رافقها من تهور ومن محاولة للتغطية على المسببات الحقيقية المبطنة في كلام بودريقة، أولهما تسريب وثيقة عقد الرجاء مع لاعبه النيجيري بابا طوندي والتي تكشف عن الشرط الجزائي المضمن في العقد، وثانيهما ما شاب الدورة 26 من البطولة الإحترافية وبالذات مباراة الرجاء ببركان والتي نال منها النسور نقطة ومباراة الوداد والكوكب التي كان فيها فوز الوداد قيصريا بعد أن طرد الحكم لاعبين وجديين ومعهما مدرب المولودية أيت جودي، ولعل الخيط الرابط بين الأمرين الذين أوصلا بودريقة إلى تلك الحالة الإنفعالية التي لا تليق برئيس ناد من قيمة الرجاء ولا بنائب لرئيس مؤسسة الجامعة، هو أن بودريقة إسوة بإدارة الرجاء يعيش تحت تأثير أزمة مالية خانقة، تظهر جلية في حقيقة أن الأطر التقنية والإدارية والطبية وحتى المستخدمين لم تسدد لهم حتى الآن رواتب أربعة وثلاثة أشهر.
من حق بودريقة أن يغضب لانكشاف حقيقة الشرط الجزائي المضمن في عقد بابا طوندي والمقدر في 700 ألف دولار وهو الذي يعرف أن اللاعب الذي تألق في موسمه الأول مع الرجاء يمكن أن يجلب للفريق الأخضر ما لا يقل عن المليارين في الميركاطو الصيفي.
وكيف لا يغضب بودريقة وهو يرى أن لقب البطولة الذي يمكن أن يكون خلاصا من الأزمة المالية الخانقة يبتعد اليوم بعد الآخر وقد إقترب منه قبل حين، والرجاء يحقق أقوى عودة بفوزه في 6 مباريات متتالية.
ومع تقديرنا لحدة الغضبة وهول الخطب وصعوبة الوضع، إلا أننا لن نتفق لا مع الصيغة ولا مع التوقيت ولا مع اختلاط الحابل بالنابل، فمكانة الرجل على رأس الرجاء الفريق الذي يمثل لكرة القدم قيمة عالية بالموروث وبالرجالات الذين أعطاهم، ومنصبه الرفيع داخل مؤسسة الجامعة كانا يفرضان معا شكلا آخر لتصريف الغضب، فلو أجزنا بأن تسريب وثيقة عقد باباطوندي أضر بالرجاء، ولو أن الأعراف الكروية والشفافية المفروضة اليوم على المشهد الكروي تجيزان الكشف عن الشروط الجزائية المضمنة في العقود، فلا بد وأن نصل بشكل فعلي إلى الجهة التي سربت الوثيقة والتي يجزم بودريقة على أنها الجامعة، برغم أن صورة من العقد توجد بإدارة الرجاء ولدى اللاعب ولدى وكيل أعماله كما هي مودعة نسخة منها لدى إدارة الجامعة مذيلة بختمها.
وقد كان منصب بودريقة كرجل ثان في الجامعة يعطيه كامل الحق والسلطة لكي يحرك مسطرة التحقيق بلا أدنى شوشرة وبلا أدنى مزايدة، كما تقتضي النزاهة الفكرية أن تباشر هذه التحقيقات داخل الرجاء ومع اللاعب ذاته ووكيل أعماله، وإن كان هناك من مذنب في النازلة فهو بودريقة، الذي لم يكن هناك من شيء يمنعه من أن يرفع قيمة الشرط الجزائي لباباطوندي إلى المستوى الذي يساعده على مفاوضة أي فريق يأتي لطلبه، إلا إذا كان بودريقة نفسه لم يتوقع أن يكون باباطوندي بذاك الأداء الذي يرشحه للمغادرة من عامه الأول.
أما ما يتعلق باتهام الجامعة والعصبة الإحترافية بتعبيد الطريق للوداد للفوز بلقب البطولة الإحترافية بتوجيه الحكام إلى محاباة الوداد والتصلب أمام الآخرين، وما اختار بودريقة للمرافعة من عبارات لفظية قدحية موجبة للمساءلة القانونية، فإن هناك الكثير من الكلام المردود عليه إما لأنه محرض على الفتنة في وقت أحوج ما نكون فيه إلى السلم الرياضي والحكمة في تدبير الإختلاف، وإما أنه لا يستقيم بالمنطق لوجود ما يسقط الحجة، فالرجاء قبل تعادله ببركان كان قد سجل ستة إنتصارات لم يشكك فيها أحد، وفي الوقت ذاته كان الوداد يحصد ثلاث هزائم متتالية من دون أن يأخذ مسؤولوه بلحية التحكيم أو أن يثوروا في وجه لجنة البرمجة.
بالقطع لا أقيم هنا مرافعة لصالح الوداد ولا أدعى على الرجاء العالمي ما ليس فيه وما لا يتناسب مع عمقه التاريخي ومع سجله الحافل بالإنجازات وبالرجال الأفذاذ، ولكنني أبدي الأسف كاملا على أن بودريقة أضرم النار في بيت نعيش فيه جميعا ويهمنا أن ننظفه من كل العناكب ويهمنا أن نطرد منه كل الأرواح الشريرة، وأمام هذا الذي فعل بذريعة أنه يواجه مؤامرة تستهدف الرجاء لا بد وأن يكون بودريقة مستعدا لتحمل المسؤولية الآنية والمسؤولية التاريخية، بخاصة إن لم يقم دليلا دامغا يقنعنا بجدوى وضروة هذا الذي فعله تحت الإكراه.