لا أذكر أنني حملت على محمل الجد، ما قاله الناخب الوطني هيرفي رونار ذات يوم في برنامج تلفزي مباشر بإمكان أي منا العودة إليه، بخصوص قرار إستبعاد عبد الرزاق حمد الله، من كان يمثل مع يوسف العرابي أكبر خياراتنا الهجومية، لطبيعة الإيقاع الذي تلعب فيه أكثر البطولات الخليجية،  ويذكر من قرأني وقتها أنني تشددت في عدم اعتبار رونار جازما فيما ذهب إليه، لطالما أن لا وجود لأحكام قطعية في كرة القدم، ولطالما أن في حياة المدربين وبخاصة الناخبين الوطنيين الكثير مما يقترن بما هو شائع فقهيا بيننا، من أن الضرورات تبيح المحظورات.
لذلك كله لم يغيضني في شيء أن يتبرأ هيرفي رونار مما قاله بعظمة لسانه، كما لا يمكنني أن أقبل بعذر لا يتناسب مع زلة اللسان، فقد فرض انضمام ثلاثة لاعبين دفعة واحدة هذا الصيف لأندية إماراتية وخليجية، أن يعتمد رونار فلسفة الهجوم خير وسيلة للدفاع، فتبرأ بالكامل مما قاله يوما، بل زاد عليه بأن قال أننا نحن من فهمنا بالخطأ ما كان يقصده، ولا بأس أن نكون قد فهمنا خطأ ما قاله رونار، ما دام أن مصلحة الفريق الوطني يجب أن تسمو فوق كل شيء، حتى لو تعلق الأمر بتخوين من قاموا بترجمة ما قاله رونار أو تأويل ما أجاب به على سؤال صحفي بطريقة خاطئة.
لا يستطيع رونار بأي منطق نريد أن يشهر رفضه القاطع أمام كل أسودنا الذين يمارسون بالبطولات الخليجية، بل سيكون من الحمق بكل الإعتبارات الفنية والأحكام التقنية التي قد نتوافق عليها، أن يفعل رونار ما يمكن أن يكون قد أعده حجة لتبرير عدم المناداة على حمد الله ذات وقت، أولا لأن الفريق الوطني مقبل على إستحقاقات كبيرة لا تقبل أبدا بأي شكل من أشكال المجازفة بضرب النواة البشرية (مباراتا الغابون وكوت ديفوار عن تصفيات كأس العالم ونهائيات كأس إفريقيا للأمم 2017)، وثانيا لأن من جذبهم الخليج العربي هذا الصيف، لاعبون من الصعب تعويضهم في الوقت الراهن، يوسف العرابي وامبارك بوصوفة وبدرجة أقل عبد العزيز برادة.
وعندما نتعمق في قراءة ما خطط له رونار من خلال ودية ألبانيا ورسمية ساوطومي، عندما قرر العودة مجددا إلى التجريب باختبار ملكات عدد من اللاعبين بخاصة منهم من يلعبون في المراكز التي يشغلها برادة وبوصوفة والعرابي، ندرك أن التضحية بمباراتين كان يفترض أن تتعمق فيهما الأوتوماتيزمات ويروض فيهما أسلوب اللعب ويتعمق اللاعبون الأساسيون في هضم فلسفة اللعب التي يقترحها عليهم هيرفي رونار، هذه التضحية كانت بسبب هذا الطارئ الذي داهم على حين غرة الناخب الوطني وثلاثة من الأضلاع الأساسية داخل الفريق الوطني يقررون التحول للبطولات الخليجية، وأنا على يقين كامل من أن رونار لو توفر على من يقدر على سد ثغرة هؤلاء لما رف له جفن واحد وهو يقرر الإستغناء عنهم.
بينما يمضي المنتخب الغابوني في تجهيز نفسه للموقعة الكروية أمام أسود الأطلس التي ستفتتح يوم 8 أكتوبر القادم بفرانس فيل بالغابون الدور التصفوي الحاسم المؤهل لنهائيات كأس العالم 2018 بروسيا بمواجهة ودية من العيار الثقيل هذا الثلاثاء أمام الأسود الكاميرونية غير المروضة، يكون الفريق الوطني قد لعب مباراتين أمام ألبانيا وأمام ساوطومي في غياب شبه كامل لثوابته البشرية، ما فوت عليه فرصة تشحيم البطاريات وما ضيع فرصة الزيادة في جرعات الإنسجام الكامل مع فكر رونار التكتيكي، وكل الأمنيات أن لا ينعكس هذا الإكراه سلبا على أسود الأطلس بعد شهر من الآن عندما يلاقون فهود الغابون بخيار الفوز أو التعادل لتكون رحلة البحث عن بطاقة التأهل للمونديال قد إنطلقت على نحو جيد.
............................................
صدمني كما صدم الكثيرين، أن يرحل عنا الوديع والأبي ومن مثل لزمنه الكروي أيقونة من الأيقونات الجميلة لكرة القدم الوطنية، الحارس الدولي السابق الطاهر الرعد.
الصدمة لا تنال أبدا من إيماننا القوي بقضاء الله وقدره، ولكنها قوية على القلب لفداحة المصاب فمن فقدناه على حين غرة، كان مجسما رائعا لأنبل المشاعر وأرفع القيم، قيم البطولة والفروسية والشهامة وقيم الخضوع لقضاء الله ومشيئته، فما تزعزع إيمان الطاهر الرعد رحمة الله عليه بنفسه وبمقدراته وبما أعطاه لوطنه ولمدينته ولكرة القدم الوطنية، كان حبه لوطنه يربأ به أن يلجأ للتشكي أو حتى للبكاء عند الأطلال.
ما إلتقيت يوما بالطاهر إلا وكانت الإبتسامة بطاقة هوية له، ولم يكن لغير التفاؤل الجميل موقعا في قلبه وفكره، وإن أنا عجزت أمامكم عن إحصاء الملاحم الكروية التي صاغها لاعبا وهو يمثل لشباب المحمدية واحدا من أضلاع الزمن الجميل إلى جانب جيل الإبداع الخارق، فرس، اعسيلة، الحدادي، طرافا وكلاوة وغيرهم، فقطعا لن يعجزني وصف حكمته وبلاغته ونظافة قلبه ونقاء سريرته كلما كان معنيا بالتحليل الرياضي لمباريات الفريق الوطني والأندية، وليس غريبا علينا جميعا أن يقال بأن العمل الإنساني ببلادنا فقد واحدا من فرسانه، فالطاهر الرعد كان باستمرار مبادرا للأعمال الخيرية من أجناس كثيرة من دون حاجة لا للتلميع ولا للتطبيل.
سمعت من يقول، أن الطاهر الرعد رحل من دون أن يحصل على ما كان يستحقه لقاء ما أعطى للوطن، قد يكون ذلك حقيقة، ولكن هناك حقيقة أسمى وأنبل وأعظم، وهي أن الطاهر الرعد هو اليوم بين يدي من لا يضيع أجر من أحسن عملا.
رحم الله الطاهر الرعد وأكرم نزله ومثواه وجازاه عنا خير الجزاء.
إنا لله وإنا إليه راجعون.