لغة القلب أسعد تتويج منتخب إسبانيا بطلا للعالم لأول مرة في تاريخه كل المغاربة وبلا إستثناء، فما إختلفنا فيه هو طقوس الإحتفال بهذا الإنجاز المونديالي والكوني، هناك من إكتفى بالعناق وتبادل قبل التهاني، وهناك من نفذ وعدا  قطعه على نفسه الإحتفاء بأصدقائه وأقربائه، وهناك من أحيى ليلة بكاملها تغنيا بهذا التتويج الرائع، وللناس فيما يعبرون به عن فرح نابع من القلب مذاهب..

تلك كانت لغة القلب التي لها ما يبررها، فنحن رياضيا أكثر قربا من الإسبان، نعشق كرتهم، ننشطر في حب نادييهما الفلكيين ريال مدريد وبرشلونة، نسمح في بيوتنا ومقرات عملنا أن يصبح الحديث عن الليغا الإسبانية وجبة أساسية وعادة يومية، نضجر منها عندما يشتد بنا الخلاف، ولكننا أبدا لا ننساها، إننا نحبها مهما أساءت تناقضاتها لنا ولمغربيتنا أحيانا..

أما بلغة العقل فإن ما أنجزه منتخب إسبانيا بمونديال جنوب إفريقيا، وهو امتداد طبيعي لما أنجز قبل سنتين بألمانيا عندما رفع إيكر كاسياس كأس أوروبا للأمم لأول مرة، يشعرنا بكثير من المرارة والحزن ليس حسدا، ما عاد الله، فنحن شعب لا يعرف الحسد، ولكن قلقا من أن تكون المسافة كرويا ورياضيا بيننا أشبه ما تكون بالمسافة الضوئىة..

في أي شيء نختلف عن الإسبان؟

في الوله والعشق والشغف نحن متساوون، فعندما يكون الأمر متعلقا بالحديث عن الرياضة وعن كرة القدم ترتفع الأصوات وتجحظ العيون ويتوثب العقل لقياس الأحكام ويصبح للقلب مساحات بآلاف الأميال للتعبير عن عمق العشق وقوة الشغف، ولكن نحن مختلفون كل الإختلاف في فلسفة هذا الوله وهذا العشق وفي ترجمة هذا الشغف إلى سياسة، إلى منظومة وإلى إستراتيجية للعمل.

إسبانيا التي تبعد عنا بأميال آمنت بذاتها، بمقوماتها وبتاريخها وبمرجعيتها، وكانت صبورة أروع ما يكون الصبر، تؤمن بأن النجاح على بعد خطوة، وأبدا لم تستعجله، أبدا لم تتبرم ولم تنهزم أمام  إنكسار حلم أو تحطم أمل، بخاصة عندما كان الدارسون  والمؤرخون وراصدو الظواهر يعتبون على إسبانيا البلد الرياضي بامتياز أنه خارج قلاع المجد والألقاب..

 اليوم  تتبدل الصورة وتنقلب رأسا على عقب، ويصبح حاضر إسبانيا الرياضي مادة يجب أن تدرس في كل الأكاديميات الرياضية وعندنا نحن بالذات، مادة في الصبر على النتائج وفي التخطيط المتوازن وفي ترتيب الإستراتيجيات والإنتقال من الواحدة إلى الأخرى بمرونة كبيرة وبإيمان أكبر.

والماتادور المتوج اليوم بلقب كأس العالم لأول مرة منذ إحداث هذه الكأس الكونية قبل 80 سنة ليس وحده الصورة العاكسة للتفوق الإسباني رياضيا، فلا يمكن أن نعزل ذلك عن منظومة وطنية شمولية، إنه يأتي لكونيته وللمكانة التي يحتلها المونديال في الرسم الرياضي العالمي بحجم عملاق، ذلك أن لإسبانيا حضورا قويا وبارزا في رياضات كثيرة، كرة السلة، كرة اليد، التنس، الدراجات...، ما يعني أن الإسبان حدثوا وعصرنوا رياضتهم القاعدية قبل النخبوية بما يتلاءم مع طبيعة الرهانات القارية والكونية..

ولأضعكم في صورة الصبر الذي تحلى به الإسبان في تدبر شأنهم الكروي وحتى الرياضي وفي تصريف كل النتائج التي جاءت أحيانا بشكل كارثي في صورة إخفاقات قوية، فإسبانيا التي إستضافت كأس العالم لأول مرة في تاريخها سنة 1982، إنتظرت 28 سنة كاملة من أجل أن تنال اللقب العالمي، بل إنها في المونديال الذي إستضافته وفي كل المونديالات التي أعقبته إلى غاية سنة 2006 لم تحظ من منتخبها بأي لحظة فرح ذلك أن الماتادور  إنتظر مرور  60 سنة ليصل أخيرا إلى المربع الذهبي ومنه إلى اللقاء النهائي الذي أهداه عرش كرة القدم العالمية.. وأستغرب كيف أننا نحن المغاربة لم نتمثل في أي مرة النموذج الإسباني، ليس لنقتفي أثره أو لنذوب فيه أو لنجعله عباءة ندخل فيها من دون قياس عقلاني كما فعلنا مع النموذج الفرنسي، ولكن لنقرأه بعمق ولنأخذ منه ما يتناسب مع واقعنا وحقائقنا وموروثنا الفكري والذي نجد كثيرا منه حاضرا في الثقافة الإسبانية.

وأحبطني حقيقة عندما عدت لأتصفح جنسيات المدربين الأجانب الذين تعاقبوا على تدريب فريقنا الوطني، وفي  كثير من المرات كنا نفعل ذلك هروبا من أنفسنا وحقائقنا، أن أجد بين 16 مدربا أجنبيا تعاقبوا على تدريب الفريق الوطني وآخرهم هو البلجيكي إيريك غيرتس، مدربا وحيدا بجنسية إسبانية هو جوزي باريناغا الذي حضر إلى المغرب سنة1971 مدربا للجيش الملكي ثم أنيطت به في ذات السنة مهمة الإشراف على الفريق الوطني فقاده إلى المشاركة في  الألعاب الأولمبية بميونيخ سنة 1972 وإلى المشاركة أيضا في أول كأس إفريقية للأمم في ذات السنة بالكامرون..

لا أقول وقد عدد المسؤولون المتعاقبون على إدارة شأن الفريق الوطني وحتى شأن الأندية الوطنية من الإرتباط بأطر تقنية أجنبية، أكثرها من فرنسا، أنهم كانوا في شبه خصام فكري واستراتيجي مع المدرسة الإسبانية، ولكن أستغرب أن يكون عزوفنا عن هذا النموذج وانسداد الأفق الرياضي بيننا وبين إسبانيا قد كان بهذا الهول وبهذه الضخامة، بخاصة في العقدين الأخيرين  عندما  قفزت إسبانيا رياضيا إلى الواجهة وأصبحت حاضرة بأبطالها وبفلسفة عملها وبمدرستها في التكوين كعملة قوية في بورصة الرياضة العالمية..

إن ما يستفز في هذا البرود الذي يطبع التفاعل الرياضي بيننا وبين إسبانيا هو أننا نتداول في كثير من الأحيان القيم الكروية الإسبانية بكثير من الإستخفاف، فمثلا عندما جرى الحديث قبل سنتين عمن يستطيع أن يخلف امحمد فاخر على رأس الفريق الوطني، تداولنا إسم لويس أراغونيس بين عشرات الأسماء، إلا أن إسمه كان خفيفا في ميزان الإختيار فذهب مسؤولونا إلى الإرتباط بالسيد روجي لومير، بينما كان أراغوتيس يصنع أولى أعياد الماتادور الإسباني عندما قاده إلى الفوز بكأس أوروبا للأمم سنة 2008، وكذا كان الحال مع ديل بوسكي الذي حقق مجدا لا يقارن مع ريال مدريد في بداية الألفية الثالثة قبل أن يكون أول مدرب يقود الماتادور للفوز بكأس العالم..

لا أراغونيس عجبنا ولا ديل بويسكي تحمسنا له، ولا ثورة رياضية إسبانية حفزتنا وأغرتنا بالتعمق في قراءتها، لقد ظل العقل غائبا عن تمثل هذا النموذج  الرائع، والحمد لله أن هناك قلبا يخفق بين الحين والحين ليوقظ العقل من نومه..