بنفس الدرجة التي نجزم فيها بأن منتخب الجزائر إستحق الخروج متقدما بهدف فيغولي في مباراته الإفتتاحية بمونديال البرازيل أمام شياطين بلجيكا الحمر، نجزم بأن منتخب بلجيكا إستحق لأبعد مدى أن ينهي المباراة لصالحه، ونجزم أن المحصلة النهائية لمباراة كنا نريدها بنسيج تكتيكي مختلف والتي تقول أن النقاط كلها ذهبت لوعاء البلجيكيين، كانت منطقية، بمعنى أن شياطين بلجيكا لم يسرقوا فوزهم.
وإن كانت الكثير من المباريات التي تلعب في المستويات الفنية العالية تحسم بالجزئيات الصغيرة أو التفاصيل الدقيقة، فإن ما حسم مباراة خضر الجزائر أمام بلجيكا وما جعل كفة الأخير ترجح أمران إثنان لا ثالث لهما.
الأول أن منتخب بلجيكا تفوق كثيرا على الأخضر الجزائري بدكة بدلائه، فبينما كانت لمدرب بلجيكا الخيارات البشرية الكبيرة المختزنة في الوعاء الإحتياطي ليقلب منظومة اللعب ويضرب في العمق الجدارات الدفاعية الجزائرية، بدليل أن من قلبوا المباراة رأسا على لقب هم مروان فلايني المغربي الأصل الذي حل بديلا لديمبيلي ووقع هدف التعادل ومارتينز الذي حل بديلا للمغربي الآخر ناصر الشاذلي وسجل الهدف الثاني، هدف الفوز، بينما كانت هذه خيارات فيلموتس لم يكن وحيد خاليلودزيش مدرب المنتخب الجزائري بحسب ما دلت عليه المباراة يملك قطع غيار تستطيع تغيير الملامح التكتيكية للمباراة.
أما ثاني الأمرين فهو المغالاة والإفراط في تقدير المنافس، فالمنتخبات الإفريقية والمغاربية تحديدا تركع لغاية الأسف أمام الفوارق التي تكتب على الأوراق، وأنا هنا لا أعتب على وحيد أنه قرر ملاعبة بلجيكا بالطريقة التي نجحت لسبعين دقيقة، أي اللعب بجدارين دفاعيين متراصين بالإرتكاز على آليات تكتيكية أغلبها يوظف دفاعيا من إغلاق للمساحات ومزاوجة للرقابة على المنطقة وعلى العيارات الهجومية للفريق المنافس من دون قدرة على تبين التحوير التكتيكي الذي يعمد له المدرب المنافس لفك الطلاسم ولإخراج فريقه من عزلته، وقد سجلت لغاية الأسف كيف أن وحيد حاليلوذزيش لم يقابل المتغيرات التكتيكية التي أقدم عليها المدرب البلجيكي ويلموتس بما يبطل مفعولها.
نجح المنتخب الجزائري ضدا عن مقدراته الفنية في عزل المنتخب البلجيكي والحكم عليه أحيانا بالإرتباك، إلا أنه عندما سقط ضحية لجزئية تكتيكية لم ينتبه إليها وأراد أن يخرج من قمقه، خرج مترنحا فأدى ثمن ذلك غاليا.
كنت أتمنى لو أن المنتخب الجزائري قدر حق نفسه وقدر جيدا ممكنات هذا المنتخب البلجيكي التي لا تصل حد إرعاب وتخويف الخصوم، ولعب بشكل آخر لنرى جيدا ما هو أهل له فرديا وجماعيا، وإن كان اليوم هذا هو خياره، فعندما سيلاقي الأحد القادم منتخب كوريا الجنوبية لن يكون أمامه من خيار سوى الفوز لإحياء آماله في تحقيق التأهل الأول من نوعه للدور الثاني، الفوز الذي يأتي مع المبادرة العاقلة ومع الجرأة المحسوبة ومع الإصرار على ضبط إيقاع اللعب ولو لأن الأمر لن يكون سهلا بالمرة أمام التنين الكوري.
......................................................................
 كدنا ذات وقت نعتقد صدقا لا خطأ أن منتخب الأرجنتين في مباراته الأولى أمام البوسنة والهيرسيك يلعب من دون عميده وملهمه وساحره ليونيل ميسي، فقد إنصرم وقت طويل ولا حس ولا خبر عن رجل بقامة متوسطة وبقدرة رهيبة على إبتلاع المسافات والخصوم بإنجاز متواليات فنية لا قبل للاعب آخر بها، ذلك أن ليونيل ميسي إختار طوعا أو كرها أن يذوب وسط كماشة من مدافعي البوسنة وهو الذي حشر في جبهة الهجوم مع أغويرو الذي مالت كفته على حساب المثير للجدل تيفيز بتوجيه من البرغوث.
لم نلحظ والجولة الأولى تنتصف تم تنتهي أي وجود مؤثر لليونيل ميسي الرجل الذي جاء إلى مونديال البرازيل حاملا على كتفين صغيرتين أحلام شعب بكامله، وجاء أيضا لينتزع أخيرا صفة الخلود التي تضعه في مرتبة أساطير كرة القدم إلى جانب مواطنه دييغو أرماندو مارادونا والبرازيلي بيلي، فقد كان بالتوظيف التكتيكي الذي وضع بالمقاس على ميسي نوع من الضبابية التي جعلت من ليو فاقدا للنجاعة وعديم الجدوى برغم أنه إختار ذات وقت الخروج من مقصلة الدفاع البوسني ليشم هواء الحرية.
إنقضى النصف الأول من المباراة والمنتخب الأرجنتيني متقدم بهدف سجل بالخطأ في مرمى البوسنة، وكان أكثر لاعب أثار الإنتباه في المباراة هو بيانيتش صانع الألعاب البوسني ونجم نادي روما الإيطالي زميل عميد أسود الأطلس المهدي بنعطية، الذي أخرج من قنديله السحري ومضات جميلة يؤسف أنها لم تضئ كفاية الطريق نحو شباكم روميرو حارس مرمى الأرجنتين.
شخصيا لم أفهم أن يكون  المدرب أليخاندرو سابيلا قد إختار لمنتخبه الأرجنتيني شاكلة 3ـ5ـ2 من دون أن يسجل عليها تنشيط هجومي يتناسب مع الطاقات الفنية والإبداعية الكبيرة للاعبيه، فباستثناء أنخيل دي ماريا الذي يملك سخاء كبيرا في بذل الجهد وفي الإتيان بما هو غير متوقع، لم يكن أي من اللاعبين الأرجنتينيين بمن فيهم ميسي بارزا في المباراة حتى أننا ساءلنا سابيلا عن جدوى الركون لشاكلة 3ـ5ـ2 إذا كان توظيفها سيغلب عليه الهاجس الدفاعي ونحن نرى خمسة مدافعين يتكومون في المنتطقة الخلفية، وما جدوى وضع ميسي وأغويرو على خط واحد وما بينهما لغة تكتيكية غير مفهومة لا تفضي إلى حوارات هادفة.
من رجاحة عقل وليونة المدرب سابيلا وعدم إنغلاقه في منظومة لعب واحدة، أنه تنبه إلى ضرورة تحوير أسلوب اللعب لحماية هدف السبق، حتى لا تضيع النقاط الثلاث وحتى يأمن على فريقه من صحوة أكيدة للمنتخب البوسني، فعمد إلى الإنتقال من 3ـ5ـ2 إلى 4ـ2ـ1ـ3 بوضع جاجو سقاء إلى جانب ماسكيرانو وبإلحاق هيغواين في جبهة الهجوم مع أغويرو وبوضع ميسي في مركز صانع للعب ما أعطاه مساحة أكبر للإبتكار وقدرة على الإنطلاق من الخلف بالإعتماد على سرعة المراوغة.
هذا الترميم التكتيكي أعطانا خلال الشوط الثاني منتخبا أرجنتينيا لا أدعي أنه بلغ درجة الإكتمال في الأداء الجماعي والتطابق مع الإمكانات الفردية، ولكنه كان أفضل من حيث تدبير المباراة في الجولة الثانية بدليل أن ميسي إستعاد نفسه وبريقه بأن سجل هدفا من ماركة مسجلة وبأن كان وراء تمريرات حاسمة لم تستثمر جيدا من هيغواين وأغويرو وكلاهما ما زال في مرحلة التسخين.
كان فوز الأرجنتين متوقعا وإن لم يكن قد تتحقق باليسر والجمالية اللذين ظنهما الكثيرون، وكان الهدف الذي وقعه ميسي بمتابة خروج من كهوف الشك التي دخلها البرغوث هذا الموسم مع ناديه برشلونة، وأتحفنا منتخب البوسنة والهرسيك بكرة قدم جميلة التي هي صورة من المعزوفة اليوغوسلافية السابقة التي عزفها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي جيل المدرب سوزيتش ووحيد خاليلودزيش وجيل سوكر ومياتوفيتش وإن كانت الهزيمة مرة المذاق وصعبة الهضم.