إذا أردت أن تكسب شيئا في الحياة فيجب أن تضع له المخطط أولا، ثم تجهز له الظروف والأسباب، وتعمل من أجله ليل نهار، قبل بلوغه وملامسته، وتحويله إلى حقيقة بعدما كان حلما بعيدا وحبرا على ورق.
لا شيء يُربح بالعشوائية ونادرة جدا هي المكتسبات التي تأتي بالصدف، ومن سعى للحصاد والثمار الغزيرة، قام وحرث وإجتهد، وأمطر عمله بالصبر والصمت، وتحلى بالعزيمة والرغبة للوصول إلى ما تمناه، مهما كانت العراقيل والحفر.
القطريون يطيرون حاليا في سماء آسيا بعدما رفعتهم إلى العالي أجنحة التخطيط، التخطيط الذي وضعوه منذ أزيد من عقد من الزمن وشرعوا في جني الفواكه، فحصل منتخبهم لأقل من 19 سنة عام 2014 على كأس آسيا وشارك في المونديال، وبنفس اللاعبين الشباب ونفس المدرب عادوا بعدها بأربع سنوات ليتوجوا أبطالا للقارة الصفراء لفئة أقل من 23 سنة، لتقودهم الإستمرارية اليوم نحو الظفر بأغلى هدية، وهي رفع كأس آسيا للكبار لأول مرة في تاريخهم، ودائما بقيادة المدرب ذاته والأغلبية العظمى من اللاعبين الذين توجوا سابقا بالألقاب الأسيوية للفئات السنية.
الخليج الذي سوّق سلفا لعقلية التغيير والمزاجية وكثرة المخططات والمدربين، ها هو اليوم يستفيد من الدروس ويخلق الإستثناء عبر التجربة القطرية الفريدة، ويصبح قدوة للعالم في الإستمرارية والإستراتيجيات على المدى المتوسط والبعيد، خصوصا بالنسبة للمشاريع المتعلقة بالتكوين والإشراف على المنتخبات الوطنية، بغض النظر عن ظاهرة التجنيس وما يرافقها من جدل وثغرات قانونية.
رائع جدا كما هو نادر دوليا أن تجد مدربا يشتغل لمدة 13 عاما متتاليا مع إحدى الجامعات، إذ تعاقب المسؤولون وتغير الجالسون على الكراسي، لكن الإطار التقني والمدرب والمربي لم يتغير، وإنما بقي وفيا لمنصبه معززا مطمئنا على مقعده، ومستمرا في تطبيق المخطط الذي وضعه مع من تعاقدوا معه، وفق أفكار مدروسة ومبنية على النفس الطويل، بزاد الثقة والصبر والإيمان بالأهداف المسطرة.
الإسباني فيليكس سانشيز غادر أكاديمية لاماسيا ببرشلونة وحل بالدوحة سنة 2006 وهو شاب طموح ومغمور لا يتجاوز 31 عاما، ولج أكاديمية أسباير وأشرف على تدريب أطفالٍ صغار من مواطنين قطريين ومقيمين، علّمهم وتعلم معهم، وكبروا جميعا جنبا إلى جنب، بعدما تسلسلوا في مختلف المراحل والفئات، إلى أن وصلوا إلى المنتخب القطري لأقل من 19 سنة عام 2013، فسارعت الجامعة القطرية إلى تنصيبه ناخبا وطنيا مشرفا على هؤلاء الشباب الذين يعرفهم منذ 7 أعوام، فجاء الحصاد بألقاب قارية متتالية بصناعة هذا الرجل، الذي قاد نفس الفريق لثلاث بطولات آسيوية في أعمار مختلفة، مستفيدا من الصلاحيات الواسعة التي مُنحت له، بعدما زرع بذورا بأكاديمية أسباير، وسقاها بالعمل الصامت والإمكانيات المادية واللوجيستيكية الهائلة الموضوعة لديه، ليجني في النهاية حصادا لم يخطر على بال أي مواطن قطري وخليجي وأسيوي.
سانشيز إلتحق شابا بالدوحة وقد يغادرها شيخا، نظرا لما ينتظره من إستحقاقات خلال السنوات المقبلة أهمها كأس العالم 2022 وهدف العبور بالعنابي للدور الثاني، ولا عجب أن يواصل الرجل قطف الثمار مع هؤلاء الأبطال الشباب، والذين صرفت عليهم قطر الملايير في مراحل تكوينهم وتنشئتهم، ليكونوا نتيجة زواج عقلاني بين السيولة المالية والتخطيط النموذجي.
إستفزني هذا الذي وصلت إليه بعض دول الخليج في الإستراتيجيات بعيدة المدى في كل الميادين والمجالات، وما نعيشه نحن اليوم في المغرب في مختلف القطاعات خاصة الرياضة وكرة القدم، حيث نملك أكاديمية وطنية محدودة جدا، ولم تنجب طيلة 10 سنوات سوى 3 لاعبين إحتياطيين مع الفريق الوطني، وحيث تتوفر جل فرقنا على رؤساء يُسيّرون عشوائيا بلا تخطيط ولا أهداف على المدى المتوسط والطويل، ومعهم يتجول المدربون ويغيرون مكاتبهم ومقرات سكناهم ثلاث وأربع مرات في نفس السنة، وتسير المنظومة ككل وفق منظور ضيق وزاوية مغلقة، فلا مال يسقي المشاريع، ولا ثقة تُطعم الأفكار، ولا صبر يصاحب الإستمرارية.