عندما أعود لمباراة المغرب وإسبانيا، بزمانها، ومكانها، ما سبقها وما تلاها وما أعقبها، أجد ما يحرض فعلا على التأمل، فهناك خيوط كخيوط الفجر التي تعلن مولد الصباح، خيوط لو أمسكنا بها لقادتنا إلى حقيقة أن ما كان في ملعب المدينة التعليمية هو الأسطورة بعينها.
ما إن انتهت مباراة كندا بفوز الفريق الوطني بهدفين نظيفين، فوز صنع به أسود الأطلس التاريخ، وهم يكررون إنجازا طال انتظاره منذ 36 سنة، خرج وليد الركراكي علينا بتصريح يقول فيه:
«لماذا لا نحلم بالفوز بكأس العالم؟»..
وكم كان سهلا على الذين يستخفون ويسخرون ولا ينفذون لجوهر الكلام ولا يدركون فلسفته ولا حتى ما يوحي به، أن ينعتوا وليد بالمجنون، وأن يرموه ببعض التوصيفات القدحية، بينما كانت الحقيقة التي سنراها بعد ذلك، أن هذا الوليد السعيد لا ينطق عن الهوى، بل هو رجل «مجذوب» و«بوهالي»، كلامه حكم وذهب، وجنونه جنون العظماء الذين لا يطيقون العيش من دون أحلام.
كان وليد الركراكي يقترب من مواجهة المنتخب الإسباني ملك الإستحواذ، وكان عليه أن يخلو بنفسه مرات ومرات، ليقرر ما هو فاعل أمام هذا الفريق الإسباني العاشق والمتيم بالإستحواذ، هل يحرمه من الكرة ويقطع له الأوردة؟ أم يترك له الكرة يدغدغها كما يشاء من دون أن يضع لجمله الهجومية الخواتيم؟
كان على وليد الركراكي أن يكون في مرتبة المعلم الذي يقف له الناس احتراما ويملأونه تبجيلا، وقد كان هذا المعلم الإنسان وهو يحتوي كل لاعبيه، يضعهم كالأبناء تحت جناحيه ويحميهم من عصف الرياح، وكان المعلم الذي لا يرد له طلب، إذ أن كل الأسود رضخوا لإرادته واقتنعوا بأسلوبه وفلسفته وأبدا لم يخب لهم ظن، لأنهم لن يصطادوا في رحلتهم المونديالية الطرائد، الواحدة بعد الأخرى، ولكنهم سيكتبون التاريخ، وما أسعدهم من جيل ومن أسود يصنعون لشعبهم ولعروبتهم ولقارتهم السعادة.
كان للفريق الوطني عازفون ساحرون ومبدعون لا يقلون في شيء عن أي من السحرة الذين يلعبون هذا المونديال، لكنهم اقتنعوا بما أملاه عليهم المعلم وليد، فامتثلوا وانضبطوا وقدموا لنا عرضا كرويا به العالم مسحور، وكيف لا يكون العالم مسحورا، وقد طرد الأسود الشياطين ولجموا العفاريت وروضوا الثيران، وكل هذه بفضل درس واحد لقنه إياهم المعلم وليد، إن جئتم لطلب المعالي فهذا طريقكم لنيل العلا، لا تتهيبوا صعود الجبال لأن من يتهيبها يعش أبدا وسط الحفر، على حد تعبير شاعرنا الكبير أبو القاسم الشابي.
ولأننا قابلنا المنتخب الإسباني بملعب المدينة التعليمية، فقد كانت فصول الدرس شاهدة على محاضرتين تبارزتا أمام مرأى من العالم، محاضرة للويس إنريكي وقد تعطلت فيها الكلمات واختنق الصوت، ومحاضرة لوليد الركراكي وقد انبهر العالم برقي الخطاب وعمق المضمون..
وقال وليد بلهجة المعلم الذي ارتفع له القدر وسما في محراب الجمال والمونديال، «إنتهى الدرس يا لويس، العبرة دائما بالخواتيم».
وهل هناك أجمل من هذه الخواتيم، أن يتألق فريقنا الوطني في ضربات الحقيقة والنبوغ والإلهام، فيتأهل للدور ربع النهائي ويقترب الناس من تصديق أن أحلام وليد المعلم الذي لا يبيع الأوهام.
وبعد كل هذا لم ينته بعد وليد من الحلم، فغدا سيكون لنا تدبير مع البرتغال.