كثيرة هي الإشادات التي تلقاها المنتخب المغربي بعد إنجازه التاريخي في كأس العالم بالشقيقة قطر، ما انتصر منها للإنتماء العربي فألبست وشاحا للتفاخر، وما انتصر منها للإنتماء الإفريقي فتجمل الإنجاز في العيون السمراء، ومنها ما انتصر للمنطق الجديد الذي يريد أن يكسر النمطية التي تسيطر على مشهد كأس العالم لعقدين كاملين من الزمن، ومربع الأقوياء يحتكر بسبق إصرار من المنتخبات الأوروبية والأمريكية اللاتينية.
ومع الإشادات بالجرأة على صعود القمم من منتخب القيم، كان هناك تحليل عميق لمسببات هذه الطفرة التي حققتها كرة القدم المغربية، ما يهمني منه هو ما اتسم بالموضوعية في التنسيب والتحليل، لطالما أن النجاح الكبير للفريق الوطني في المونديال، هو تتويج لعمل أنجز في العمق، شمل أوراشا كثيرة، منه ما كان متوسطا وما كان بعيد المدى.
إلا أن من أقوى ما ترسخ في ذاكرتي وأنا أتفحص هذه الإشادات المحمولة أحيانا على أحكام واستناجات، ما ورد على لسان الأسطورة الألماني كارل هانز رومنيغي المدير التنفيذي السابق لنادي بايرن ميونيخ الألماني، والذي قال بمنتهى الحكمة والتواضع التي لا تبقى مجالا للإستعلاء، أن التجربة المغربية ملهمة، وعلى الجامعة الألمانية لكرة القدم أن تتعمق في قراءتها، لعلها تهتدي إلى طريق آخر لتحقيق النجاح، بخاصة وأن المنتخب الألماني المتوج بطلا للعالم سنة 2014 بالبرازيل كرر وبشكل مثير للدهشة الخروج من الدور الأول في نسختي 2018 بروسيا و2022 بقطر، وهو بالمناسبة أمر يحدث لأول مرة مع المانشافت في مشوراه المونديالي، الذي يجعل منه ثاني منتخب بعد البرازيل تحقيقا للقب العالمي.
وطبعا عندما ينجح منتخب إفريقي وعربي جاء إلى المونديال مغمورا ومبعدا بشكل كبير من كل الترشيحات حتى لعبور الدور الأول، في الوصول للمربع الذهبي، ويتقدم في ذلك على منتخبات عريقة كالمنتخب البرازيلي والمنتخب الألماني والمنتخب الإنجليزي، فلا مجال أبدا للحديث عن الصدفة، بل إن الإنتساب للأربعة الكبار بالعالم، مصدره ثورة نوعية أعلنت منذ وقت طويل، ولابد أن تكون مصدر إلهام للآخرين، لذلك من غير المستبعد أن تكون التجربة المغربية، على غرار الكثير من التجارب الناجحة في تاريخ كرة القدم العالمية، موضوع بحث وتمحيص في كبريات المختبرات الكروية العالمية، وفي مقدمتها المختبر الألماني الذي إن وضع تحت المجهر فشل منتخبه في عبور الدور الأول للمونديال لثاني مرة تواليا، وضع رهن الكشف حتى بالرنين التكتيكي النجاح المغربي في مونديال قطر، فدرسه فكرا وتخطيطا قبل أن يدرسه أسلوبا ومنظومة اللعب.
ومع هذا التواضع الذي يبديه الكبار وبه تتحقق نجاحاتهم وبه يقفزون سريعا فوق عثراتهم، ندرك حجم وحقيقة ما أحدثه الفريق الوطني في الفسيفساء الكروي العالمي، ذلك أن الرسوخ والمكانة الرفيعة بين الأربعة الأفضل في العالم، يقلدنا بالعديد من المسؤوليات التاريخية، مسؤولية الإستثمار في النجاح لاستدامته، مسؤولية الحفاظ على الإرث اللامادي والرياضي بجعله هاديا لنا في طريق العمل، ومسؤولية أن نكون القدوة لمن يسعون للنجاح وليس لمن يعادون النجاح من فرط إدمانهم للفشل.
يفترض إذا أن تتصرف كرة القدم المغربية من اليوم، على أنها تتبوأ قمة العالم، بعد أن تبوأت زمنا طويلا من خلال الأندية القمم الإفريقية، لذلك على كل مكونات العائلة أن تتصرف بشكل احترافي فلا يصدر عنها ما يشوش على المظهر وما يحدث شرخا بالصورة الجميلة التي تشكلت في المونديال، لذلك تحتاج العائلة لميثاق جماعي غير معلن لصيانة المكاسب ومواصلة العمل للبقاء في أعلى المراتب.
وإذا كان فريقنا الوطني في مونديال قطر أكثر من وجه رسائل للبشرية، غير محصلته الرياضية الخارقة للعادة، فإنه من الضروري البقاء على نفس العهد، عهد الوفاء لهذه القيم والرسائل الجميلة، فقد غدا منتخبنا الوطني من حملة الحلم، كما غدا لإفريقيا وللعرب مصدر فخر، وغدا للعالم مصدر إلهام، فما أجملها من خصال وما أثقلها من أمانة، أمانة الحفاظ على الصدراة.