لم تمر أيام كثيرة على رحيل الأسطورة البرازيلي بيلي، الملك الذي تربع لأزمنة طويلة على عرش الإبداع الكروي، سكن القلوب وفجر من السحر ينابيع وأنهرا لتخلد إسمه في تاريخ كرة القدم العالمية، حتى نعت فرنسا للعالم رحيل أسطورة أخرى، لم يكن بذات السحر الذي تدفق كالماء الزلال من جدول بيلي، لكنه دخل تاريخ كأس العالم سنة 1958، ومنذ ذلك الوقت وإلى اليوم لم يخرج منه، فما استطاع لاعب أن ينسج على منوال جوست فونطين بتوقيع 13 هدفا في نسخة واحدة لكأس العالم.
طبعا، ما كان ممكنا أن يمر علينا نحن المغاربة بالذات، خبر رحيل الأسطورة الفرنسي جوست فونطين، من دون أن يذكرنا الرحيل الحزين، بأن أيقونة الكرة الفرنسية الذي لبى نداء ربه وهو يصل لسن التسعين من عمره، هو إبن شرعي لمدينة مراكش، وأنه تلقى تكوينه بحواري جوهرة الجنوب، بل لعب سنواته الثلاث الأولى مع نادي الياسام، قبل أن ينضم لنادي نيس ويحمل تلقاء ذلك قميص المنتخب الفرنسي، الذي سيدخل معه التاريخ من أوسع الأبواب خلال كأس العالم 1958 بالسويد، عندما قاده للدور نصف النهائي، وعندما سجل ما يتصدر إلى اليوم الأرقام القياسية للمونديال.
ولا نذكر نحن المغاربة الراحل جوست فونطين فقط بهذا الذي سردته، والتاريخ أمين عليه، بل نذكره أيضا لأنه كان من الناخبين الوطنيين الذين تعاقبوا على تدريب أسود الأطلس، وفي ذلك تحتفظ ذاكرتي بالكثير من الأشياء التي كنت شاهد عيان عليها، هي ما يجعل للرجل مكانة في معيشي الصحفي.
على أنقاض خسارة موجعة تجرعها الفريق الوطني سنة 1979، أمام نظيره الجزائري في مباراة عن تصفيات الألعاب الأولمبية، فيما أصبح يعرف بدجنبر الأسود، عاد جوست فونطين إلى المغرب موطن الميلاد والنشأة، ليصبح مدربا وناخبا وطنيا بمساعدة الراحل محمد جبران وطيب الذكر حمادي حميدوش، ولم يكن وقتذاك يملك غير ثلاثة أشهر ليعد أسود الأطلس لكأس إفريقيا للأمم 1980التي كانت نيجيريا هي مستضيفتها وهي من سيتوج بلقبها.
من الصفر انطلق فونطين في بناء الفريق الوطني الذي سيلعب شهر مارس من عام 1980، كأسه الإفريقية الرابعة، وسريعا سيبني الرجل بمعية جبران وحميدوش جيلا موهوبا يضم لاعبين من أمثال لعلو، الزاكي، موح، ليمان، حمامة، شيشا، خالد الأبيض، بودربالة، جمال جبران، البوساتي وآخرين، بل سينجح معه في إحراز برونزية البطولة بعد أن تغلب في مباراة الترتيب على منتخب مصر بهدفين نظيفين.
لن يمضي جوست فونطين على رأس الفريق الوطني أكثر من سنتين، إذ أن الخسارة بالقنيطرة شهر نونبر من عام 1981، بهدفين لصفر في الدور الإقصائي قبل الأخير لكأس العالم 1982، أمام منتخب كامروني يقوده كل من نكونو، روجي ميلا، الدكتور أبيغا وطوكوطو، ستعجل بإقالة فونطين من منصبه، حتى أنه لم يقد الأسود في مباراة العودة بعد أسبوعين بياوندي، فمن تكلف بذلك مساعداه، الثنائي المغربي جبران وحميدوش، وكان الفريق الوطني قد كرر خسارته أمام الأسود غير المروضة بهدفين لهدف، ومن سجل هدف المغرب الوحيد وقتذاك، النجم مصطفى يغشا المحترف وقتها بسويسرا، وكان من المؤاخذات الكبيرة على فونطين، أنه أمعن في رفض ضم كل من ميري كريمو ومصطفى يغشا لعرين الأسود، وكانا حينها إسمين لامعين في البطولات الأوروبية.
قادتني إلتزاماتي المهنية، وكنت يومها صحفيا رياضيا بجريدة الميثاق الوطني، لأعايش الفريق الوطني بشكل حصري في واحد من تربصاته المغلقة بمدينة إيموزار، وأمكنني أن أكتشف الجوانب الإنسانية للراحل «جوستو»، وهي للأمانة كثيرة ومتعددة، فالرجل عميق وشفاف، بل وعبقري في إيجاد الحلول، وقد وقفت على جوانب كثيرة مما يدرس اليوم كفن لقيادة وإدارة فريق لكرة القدم، حيث تكون الثقة بين المدرب واللاعبين هي الرباط الوثيق الذي يصنع النجاح.
يحسب ل«جوستو» أنه عبر بالفريق الوطني من حالة صدع رهيبة، فقد تقطع ما كان يربط الجماهير بفريقها الوطني من وثاق بعد الخسارة الثقيلة أمام الجزائر، وما تحقق له ذلك إلا لأنه كان ماهرا في بناء الصرح الجديد.
وخلال الحصص التدريبية التي كنت أداوم على حضورها، وقفت على جوانب كثيرة طورها فونطين في مهارات لاعبي الفريق الوطني، الذين كانوا هم النواة الأولى للفريق الذي سيبهر العالم خمس سنوات بعد ذلك بكأس العالم مكسيكو 1986، ولن أنسى طبعا ما كان يقوله الفنان عزيز بودربالة «شوارع المراوغة»، كلما سئل عن مدربه فونطين:
«لقد تعلمت منه، ما ساعدني بعد ذلك تقنيا ومهاريا لأدخل عالم الإحتراف من أوسع الأبواب، إضافة للطريقة الرائعة التي كان يعاملنا بها كلاعبين، يحملنا المسؤولية لنتصرف كلاعبين محترفين، مع أننا كنا هواة بتكويننا وبيئتنا الرياضية».
إختصارا لكلام طويل، عن شخص عرفته عن قرب قبل 43 سنة، دخل الراحل جوست فونطين تاريخ كرة القدم المغربية ليكون في طليعة الناخبين الوطنيين المؤثرين في مسار الأسود الطويل، كما دخل تاريخ كأس العالم وهو يواصل منذ 64 سنة القبض على رقم قياسي لم يقدر عليه غيره، ولا أظنه سيخرج من رحاب التاريخ أبدا.