ما يحصل في مشهدنا الكروي يستحيل أن تجده في مكان آخر، حيث لاشيء يرتفع فوق أحكام الإحتراف، التي تقضى بأن القرارات التقنية هي مخاض وتفكير وضرب أخماس بأسداس ورصد للتوقعات، بهدف التقليل من هامش الخطأ.
عندنا فقط، نستطيع أن نُخْرج من الباب مدربا ونُدخل غيره من باب آخر، أن يلقي مدرب مغادر خطبة الوداع المؤثرة، وبعدها بلحظات، مجرد لحظات، يلقي مدرب قادم خطبة الوعود والآمال والأحلام، الأمر أشبه ما يكون بلاعب يدغدغ مشاعر الجماهير، فيُقَبل قميص فريقه حتى ليشعرنا أنه ينزل عنده منزلة القداسة، وما هي إلا أيام حتى يرمى ذاك القميص أرضا ويدوس عليه بقدميه.
ما يحدث داخل الوداد الرياضي الفريق المرجعي، صاحب الرقم القياسي في عدد مرات التتويج بلقب البطولة والحامل لآخر لقب لعصبة الأبطال الإفريقية، هو صورة من هذا «التفسخ» الرياضي الذي يسيطر على مشهد كروي وطني يحسب قانونا على الإحتراف، وهو ما زال بعيدا عنه بعد السماء عن الأرض، في ثقافته ومعاملاته وصناعة قراراته.
لست أدري من أي سماء سقط إسم المهدي النفطي على رأس سعيد الناصري، ليرى فيه البديل الأمثل للمنفَصَل عنه، الحسين عموتا، فما دلتنا عليه الأيام ومعترك التجربة، أن هذا النسر التونسي كان أبعد ما يكون، عن المدرب الذي يحتاجه الوداد في موسم الدفاع عن التاج الإفريقي، لا أقصد تركيبة المهدي النفطي ولا مرجعيته الكروية، ولكن أقصد أنه لم يكن الخيار المثالي.
وسريعا جيء بالإسباني خوان كارلوس غاريدو، ولا أدرى من فكر سعيد الناصري في هذا «الماطادور» الذي تاه في طريقه منذ موسميه الرائعين مع الرجاء.
لا خلاف على أن نسخة الوداد الرياضي مع غاريدو بدت تكتيكيا ونفسيا، أفضل من نسخة الوداد مع المهدي النفطي، لكن مع ذلك بقي الوداد بعيدا عن الحالة الذهنية والنفسية والتكتيكية التي كان عليها مع طيب الذكر وليد الركراكي. وكان بالإمكان غض الطرف عن هذا التثاؤب الذي أظهره الوداد في العودة إلى سالف أريحيته وعنفوانه، لولا أن غاريدو عبث في القيمة الأجمل التي رسخها في بيت الوداد، روح العائلة وثقافة اللمة، فهل كان من الصعب على سعيد الناصري أن يكتشف في غاريدو افتقاده لهذه الخصلة المهمة؟
لم ير غاريدو حاجة لترسيم زهير المترجي وقد عاد لقمة مستواه بعد تعافيه، ولم يلق بالا لرضا الجعدي الذي كان من القطع الأساسية للوداد، وما غاب إلا لأنه اشتكى من الإصابة، وأمعن في إذلال عناصر كانت تصنع الفارق في الوداد وأولها الجناح الطائر أوناجم، وتجاوز غاريدو كل الخطوط الحمراء فأشعل الحرائق في مستودع الملابس، بل إنه سيتجرأ على ما هو مقدس في مشترك الوداد، اللمة وروح العائلة، فتشاجر مع مساعده عبد الإله صابر، حتى أجبره على المغادرة تحت الإكراه، وبرغم ما فعله الناصري لإخماد كل هذه الحرائق، إلا أنه عجز عن ذلك، ليتحمل وزر اختياراته التي لم تصب، فهو من انفصل عن عموتا لأسباب ليست رياضية، وهو من جاء بالتونسي المهدي النفطي فحصد الفشل، وهو من جاء بكارلوس غاريدو فتجرع معه المرارة التي تحدثنا عنها.
ومن دون حاجة حتى لالتقاط الأنفاس، جاء سعيد الناصري، في نفس اللحظة التي حرر خلالها محضر الطلاق مع غاريدو، بالمدرب البلجيكي سفين فاندنبروك، الذي عرفناه مدربا للجيش، وأثنينا على عمل جيد قام به لبعث الجيش من مرقده، قبل أن يحزننا رحيله المفاجئ، وهو يهرول صوب السعودية لتدريب أبها، مفضلا إياه على الجيش بسبب دراهم معدودات، وهي دراهم معدودة بالفعل، لأن مقام فاندنبروك لن يطول مع أبها، إذ سيجري سريعا الإنفصال عنه بسبب ضعف النتائج.
الإرتباط بسفين في هذا التوقيت هو سيف ذو حدين، فإما أن تضحك الدنيا للأشقر البلجيكي، فينال لقبا أو أكثر بالنظر إلى أن الوداد ينافس فعليا على أربع واجهات، لقب عصبة الأبطال على مرمى حجر ولقب البطولة الإحترافية على بعد ست دورات، وإما أن تتغمم سماء الوداد فلا تمطر شيئا، وعندها يسأل الناصري عن هذا الرقص الكئيب..
وأيا كانت نهاية المسلسل، فإن مشهدنا الكروي سيظل أسير فكر هاو بهوية إحترافية!