هل تنفع الكلمات؟

بل هل تكفي الكلمات لتكتب هذه الملحمة الرائعة التي أهدانا إياها فريق من هذا الوطن وأبناء من هذا الوطن؟

أعترف أمامكم أنني أشعر بعجز كبير، أخاف إن أنا كتبت بالأحرف مهما كانت بليغة أن لا أوفي الرجاء حقها وهي تصنع التاريخ وترفعنا كمغاربة إلى عنان السماء بل وترفع عنا كل غشاوات الإخفاقات التي جردتنا من كل أمل في الإنعتاق.

كل التحاليل التقنية لن تستوعب المباراة الأنطولوجية التي وقع عليها النسور الخضر أمس الأربعاء بمراكش، كان هناك سحر اللمسة وبلاغة الخطاب التكتيكي وما شئتم من قوالب وصيغ الإعجاز بأروع الصور، ولكن لا أحد منا يستطيع أن يكتب ما أفرزه الدم والقلب وما تدفقت به الإرادة، فيا سادة هذا الرجاء قهر العياء وقهر الصامبا وقهر كل الفوارق التي تقصف الرؤوس، وكان حافزه الوحيد أنه كان ملهما ومتحفزا وحالما ومصرا على أن يهدي المغاربة كلهم لحظة الفرح التي أخرجتهم بالملايين إلى الشوارع هنا بالمغرب وهناك في كل دول المعمور، حيث يقيم أبناء وطني، لقد أخرجونا لأول مرة منذ سنة 2004 التي كان فيها الفريق الوطني فارس كأس إفريقيا للأمم بتونس.

هؤلاء النسور ليسوا إلا صورة من أبناء هذا الوطن الذين لا تعوزهم الإرادة لكتابة التاريخ، فشكرا لهم على ما أعطونا إياه من فرح وغبطة وشعور بالكينونة وبالفخر.

شكرا لكم، لقد رفعتم رؤوسنا وسط الأشهاد وثقوا أننا لا نحن سننساكم ولا التاريخ سينساكم.

وحتما فالإلياذة الخضراء لم تكتب آخر فصولها، فما زالت هناك بقية يوم السبت أمام الباييرن.  

.......................................................................

إن سئلت عن كرة القدم، إن كانت علما من العلوم الحقة؟ قلت على الفور بلا تردد.. لا ثم لا، فلا شيء فيها يقول باحترام القانون الوضعي ولا شيء فيها يقول بوجود المنطق كما هو معرف في  كتب العلم القديمة والحديثة، ولكن إن سئلت، هل كان بمقدور غوانغزو الصيني أن يحقق ولو واحدا بالمائة من الذي يرفضه المنطق، أي أن يفوز على باييرن ميونيخ لأجبت أيضا ومن دون تردد لا.

كنا ندرك حجم الفوارق التي لا تقاس فقط بالتاريخ التليد وبالألقاب حتى وهي تعد بالعشرات، ولكنها تقاس أيضا بدرجة الهلامية التي وصلها الأداء الجماعي الذي لا يترك في دوران الآلة بقوة أي ذرة للحظ أو للصدفة، لذلك ما تصورنا أن غوانغزو الصيني بكل الأريحية التكتيكية التي أظهرها متحفزا بفكر مدربه الإيطالي الكبير مارتشيلو ليبي وهو يتجاوز بالمهارة وبالجدارة الكاملة نادي الأهلي المصري، ما تصورنا أن التنين سيقدر على خنق خراطيم الباييرن فلا تستطيع أن ترش بسحرها محيط المباراة حتى أنها أحالتها إلى مباراة للإستعراض، لا أقصد الإستعراض المستهجن الذي يقصد الإساءة للجماعية وإذلال المنافس ولكن أقصد الإستعراض الذي يضعنا أمام أحدث ما وصله الإبداع التكتيكي لتحويل الفريق إلى وحدة جماعية، إلى مغناطيس جاذب وإلى آلة حصاد لا تبدي شفقة لأنها تأتي على الأخضر واليابس في المباراة الواحدة.

قدم غوانغزو الصيني بتوجيهات صارمة من مدربه ليبي، ما يقول بأنه يحترم باييرن ميونيخ بمرجعياته وبنجومه ولكن لا يهابه إلى الحد الذي سيدخل معه المباراة محتميا بالدفاعية الصارمة، وأدركنا قيمة هذه الشجاعة مع بداية المباراة عندما قدم الصينيون أوراق التحدي وكأنهم يقبلون بالمبارزة المكشوفة، ليساعدنا ذلك على أن نشاهد الباييرن تماما كما يريدها بيب غوارديولا، باييرن ساحق وزاحف مالك للقدرة على توجيه المباراة للإيقاع المفضل وللسيناريو الذي يطابق الوصفة التكتيكية، ومع العرض الرائع والقوي للبافاريين الذي أعطى في النهاية التفوق على كافة مناحي التنافس، أهدافا وفرصا وتهديدات واستحواذا على الكرة، أدركنا إلى أي حد إستطاع غوارديولا أن يشفر المنظومة التكتيكية ويصل بها إلى أعلى درجات السهل الممتنع، وأدركنا كم نحتاج من السنوات ومن العمل في العمق ومن الصبر، هنا في القارة الإفريقية وهناك في القارة الصفراء، لكي نردم هذه الهوة الرهيبة التي تفصلنا عن الكرة الأوروبية التي تنجح باستمرار في اللعب طبقا لأحجام تكتيكية رهيبة لا ولن نقدر عليها وإن توفرت لنا أحيانا الشجاعة والجسارة لتحقيق المستحيل.

كما كان متوقعا حجز الباييرن لنفسه مقعدا في النهائي بأقل تكلفة بدنية ممكنة، ولا أظنه أفرط في تقدير هذه الخطوة ولا حتى حمل الفوز الإستعراضي ما لا يحتمل، ما دام أن رهانه الأكبر هو الفوز بالمباراة النهائية ليعود إلى جماهيره باللقب العالمي الذي ينقص خزانته.

...........................................................................

يقولون أن الرسالة تقرأ من عنوانها، والمغرب قدم من أول يوم الدليل على أنه سيتفوق في الإمتحان العالمي وعلى أنه سيحظى بميزة تقدير عالية جدا في إستضافته للنسخة العاشرة لكأس العالم للأندية التي قال جوزيف بلاتير رئيس إمبراطورية الفيفا في حديث لـ «المنتخب» قبل أسابيع أنها ستكون بروفة لقياس مدى قدرة المغرب على تنظيم الأحداث الكروية الكونية وأبرزها كأس العالم للمنتخبات، وإن كان متأكدا بحكم ما كان يصله تباعا من تقارير من لجن المعاينة من أن النجاح سيكون حليف المغرب في تنظيم هذه الكأس التي يقول البعض إنها يتيمة بطولات الفيفا.

بالقطع نجح المغرب تنظيميا عندما إختار أكادير ومراكش مسرحا للحدث العالمي وعندما قدم بالدليل القاطع شغف أبنائه بكرة القدم وعندما وقف العالم على ملعبين جميلين أنجزهما المغرب مع ملعب طنجة وفاء منه بالعهود، وعندما حظيت المباريات السبع بنسب قياسية للحضور الجماهيري، ولكنه نجح أيضا بمهارة الإستقطاب والجذب في إعطاء هذه البطولة ما كانت تبحث عنه لسنوات منذ أن أحدثت سنة 2000، أي أن تكون حديث عائلة كرة القدم العالمية.

لا أجزم بأن البطولة خلت من العيوب أو أنها تبرأت من الشوائب أيا كانت طبيعتها ولكنني أؤكد على أن المغرب قدم البرهان القاطع عن مقدراته التنظيمية، ما أدخله فعلا ومن الباب الكبير جيل الأحداث الرياضية الكونية، وهو دخول لا بد وأن يحثنا على تطوير الآليات وتعميق المعرفة والإستثمار في الرصيد والإعتراف بكل الهفوات مهما كانت صغيرة وهي مؤثرة للتغلب عليها لاحقا، وإلا سنكون كمن دخل عالم الأحداث الرياضية الكونية وخرج منه في يومه.