ماذا يعلمنا تتويج المنتخب البرتغالي لأول مرة في تاريخه بالكأس التي تضع على رأسه تاج القارة العجوز ليصير به ملكا لكرة القدم في القارة الأعلى شأنا للسنوات الأربع القادمة؟
يعملنا أشياء كثيرة، أولها بل وأقواها أن لا يغيب عنا ذاك المنطق الفريد من نوعه الذي تفرضه كرة القدم على المشهد الكروي منذ الأزل، منطق أنها تعلو على كل منطق وضعي، فليس بالضرورة أن يتوج بطلا من يلعب كرة قدم جميلة فيها سحر الأداء وجمالية العرض، وليس بالضرورة أن يصعد لأعلى القمم من يتمتعون بذكاء خارق في مقاومة جاذبية النزول والإنحدار، ولكن من يرفع الكأس، يرفعه لأنه إستجاب لكثير من حتميات وبديهيات منطق كرة القدم، من ينجح في القبض على اللقب هو من يحضر الطبخة الأجمل بتوابل كثير منها ليس له علاقة بالبهارات التي يعشقها الرومانسيون والمتعاطفون مع ما يصطلح عليه تجاوزا بالكرة الجميلة.
وليس هناك من درس عميق تعيده على مسمعنا ووعينا كرة القدم بمستوياتها العالية، أكثر من درس الواقعية مجردة من كل الزوائد اللفظية، الواقعية التي تقود إلى رسم تكتيكي يتطابق كليا مع الخامات الفنية والذهنية للاعبين والواقعية التي تضبط النهج التكتيكي على الخصوصيات البشرية والواقعية التي تنتصر للإنضباط الجماعي في الإمتثال كليا لضوابط النهج التكتيكي ولمتطلبات المباريات.
غيري يجد في تتويج منتخب البرتغال معاكسة صريحة للوقائع الفنية وضربا مبرحا للقيم الجمالية وإعداما لجمالية الأداء، حتى أن هناك من تطاولوا على هذا الإعجاز الكروي الجديد الذي وقع عليه زملاء الدون رونالدو، فقالوا حينا بأن منتخب البرتغال سرق اللقب وأن منتخب فرنسا كان أكثر جدارة به، وحينا آخر بأن الحظ إنحاز بشكل سافر للبرتغال فمهد لها الطريق وأزاح عنها القوى التقليدية وأوصلها إلى حيث كان يظن ويعتقد أنه من المستحيل الوصول إليه.
ولو نحن إحتكمنا للغة الأرقام التي لا تكذب، فإننا سنجد في المنتخب البرتغالي ما يجعل منه سيد الكثير من المواقف التي مر منها، أظهر براعة في تدبير المسار وأبدى مرونة كبيرة في التعاطي مع الطوارئ وضبط نفسه على كل المقاسات التي يحتاجها السفر إلى الخلود، لم يكن هذا المنتخب البرتغالي إلا صورة من أسطورته رونالدو، في إصراره على النجاح، في تعطشه للإنتصارات، في مطابقة الذات وفي قهره للمستحيل، وللتدليل على ذلك ما أبداه اللاعبون البرتغاليون من تماسك رهيب ومن إنضباط تكتيكي فاق التوقعات في المباراة النهائية أمام منتخب فرنسا والدون رونالدو يغادر المباراة مصابا بانقضاء الربع ساعة الأولى.
وحتى لو جاز الحديث عن وجود نسبة حظ في تتويج المنتخب البرتغالي بالكأس الأوروبية، فإن التعريفات الفلسفية والرياضية للحظ تقول بأن هذا السلطان لا يقف في صف الضعفاء ولكنه يمتثل فقط للأقوياء، ومنتخب البرتغال كان أقوى من الجميع بالحظ وبالأداء مهما تحاملنا عليه، وبالإصرار الذي يفل الحديد ويقهر كل العوارض الفنية.
في النهاية لا بد وأن نحتفظ بتتويج المنتخب البرتغالي باللقب الأرفع بين كل القارات، كمجسم كبير لما يمكن أن يبلغه أي منتخب إن هو آمن بقدراته وتطابق أسلوب لعبه مع خصوصياته الفنية، أتمنى لو أن أسودنا وضعوا نصب الأعين هذا المجسم الجميل وهم يستعدون لمغامرة إفريقية جديدة، عندما يحين موعد نهائيات كأس إفريقيا للأمم مطلع العام القادم بالغابون.
.................................................
لا أعرف عددا للمرات التي وقفنا فيها على أطلال البطولة الوطنية متحسرين ومستفهمين ومستغربين أيضا، في سالف العصر والأوان، عندما كان الهدافون يولدون بالعشرات من رحم الأندية، حتى أن الناخبين المتعاقبين على الفريق الوطني كانوا يجدون عناء كبيرا في الإختيار، وإن إختاروا ظلموا وما ظلموا عن سبق إصرار.
اليوم خلت الدار من قاهري الشباك، ممن يستنشقون عبير الأهداف ممن تتلوى أمعاؤهم وتنتكس رؤوسهم وتدمع عيونهم إن هم لم يقهروا حراس العرين وما أدراك ما حراس العرين بعنكبوتيتهم وبأسطوريتهم وقد كانوا أيضا بالعشرات.
بالقطع لن أكون عدميا لأقول بأن الهداف خرج من بطولتنا الإحترافية من بيتنا الكروي ولم يعد، لن أقول بأن الأندية تيتمت بموت أساطير الكرة الهجومية، فهناك نزر قليل، ولكننى أتساءل معكم، لماذا خلت خيمتنا الكروية من هؤلاء الذين يوصلون الكرة للشباك، من هؤلاء الذين يصنعون متعة كرة القدم، الأهداف.
للأمانة فكرة القدم المغربية لا تشهد عقما في إنجاب الهدافين فقط، ولكنها تعرف ضحالة ما بعدها ضحالة في تكوين لاعبين بالمقاسات الفنية والذهنية التي عليها تضبط الكثير من الأدوار في كرة القدم الهجومية والدفاعية على حد سواء، وقد أخذنا نشهد تراجعا رهيبا في إنتاج السقائين ورجال الربط وصانعي الألعاب، وتلك طامة عظمى لا أقول أننا لم ننتبه إليها، ولكننا إلى الآن لم نهيء وصفة متكاملة لمواجهتها وإخمادها قبل أن تأتي على ما بقي لنا.
كرة القدم التي فتحت عيني عليها ومارستها بشغف طفولي إسوة بأبناء الجيل، وكانت إمتدادا لكرة القدم التي أعطت بنمبارك وأقصبي وبلمحجوب وفرس وكل الأساطير الذين دونوا أسماءهم في تاريخ الكرة العالمية قبل الإفريقية، كرة القدم تلك إحترمت بالفعل كل ما له صلة بالإبداع الذي يقود للنبوغ، إحترمت ما يسمى بكرة القدم المتوحشة، الممارسة بسخاء في الحارات والدروب والمساحات الجرداء المترامية، واحترمت ضوابط التنقيب عن المواهب وكانت وقتذاك بالآلاف، فكان للأندية كشافون متطوعون، لا يسألون عن إكتشافاتهم أموالا، لأن ذاك العمل كان يحقق لهم متعة لا تقدر بمال، واحترمت برغم ضعف الإمكانيات المالية واللوجيستيكية التكوين القاعدي الذي يخضع له كل لاعب موهوب جاء به الكشافة، فلم نكن نشتكي أبدا من خصاص في أي من المراكز، من حراس المرمى إلى أمهر القناصين والهدافين، مرورا بالمدافعين ورجال الربط وأجنحة التموين.
ما وقع أنه بتطور كرة القدم وبزيادة حاجياتها التقنية والتكتيكية والذهنية، وبحضور التكوين العلمي كقاعدة للوفاء بالإلتزامات التكتيكية، ظللنا نحن خارج السياقات العالمية، ولم يكفنا أننا لم نعتمد منهجا خاصا في التكوين لاستغلال الثروات البشرية، بل زدنا عليه أننا أعدمنا كرة الحواري كما يجب أن تكون، وعندما فتحنا مدارس لكرة القدم لجلب الأطفال وضعنا الربح المادي على رأس الأولويات، فتحولت مدارس كرة القدم إلى متاجر صغيرة وإلى حضانات للأطفال.
الذين سيحجزون بعضا من وقتهم لقراءة الملف الساخن الذي أعده الزميل منعم بلمقدم وننشره على صفحتين في هذا العدد، عن ندرة الهدافين في البطولة الوطنية، وكل النوسطالجيا التي أبدع في شحنها للتدليل على الفوارق المهولة بين الأمس البعيد والقريب واليوم المثقل بهموم السؤال، سيقفون دامعين على حقيقة أننا نلعب ونتدبر ونسير كرة قدم كما تريدها هوايتنا المهترئة والعادمة، لا كما يريدها الزمن الحديث الذي قلل الفوارق وجعل لكرة القدم لغة عالمية يتحدثها الجميع ولكن لا يتقنها إلا القليل.